مقالات متخصصة



الاعتزال (الاختلاء) أساس الشركة

 

"سيُقَدم لك الصمت كتسبحة يا الله في صهيون" (مز 65: 2)

كثيرٌ من الناس يسعون لطلب الشركة لأنهم يخافون العزلة. لأنهم لا يطيقون الوحدة، فهو مدفوعون لطلب رفقة آخرين. المسيحيون أيضًا الذين لا يطيقون أن يكونوا وحدهم، الذين كان لهم بعض الخبرات السيئة مع أنفسهم، يأملون أن يختبروا بعض المساعدة في الشركة مع الآخرين. هؤلاء غالبًا ما يُحبطون، ثم يلومون الشركة على ما هو في الحقيقة خطأهم الشخصي. شركة جماعة المسيحيين ليست مصحة روحية. والشخص الذي يدخل إلى الشركة هربًا من نفسه، إنما يُسئ بذلك استخدام الشركة في سبيل للثرثرة والتشتيت، حتى وإن بدت الثرثرة والتشتيت كدرجة من درجات الروحانية.

هذا الشخص فعليًّا لا يطلب الشركة على الإطلاق، بل يطلب النشوة فقط، التي ستسمح له أن ينسى وحدته لوقت قصير، وبهذه الطريقة عينها يخلق عزلة المرء المميتة. تَحَلُل الكلمة وكل الخبرات الحقيقية وأخيرًا الاستسلام والموت الروحي لهي نتائج مثل هذه المحاولات لإيجاد الشفاء.

ليتحذر من الشركة كل من لا يقدر أن يكون وحيدًا. لن يجلب إلا الضرر على نفسه وعلى الشركة. لقد وقفت وحيدًا أمام الله عندما دعاك، وكان عليك أن تجيب هذه الدعوة وحيدًا، كان عليك أن تأخذ صليبك وحيدًا، ووحيدًا كان عليك أن تصارع وتصلي، فوحيدًا ستموت وتعطي حسابك لله. لا تقدر أن تهرب من نفسك؛ لأن الله فرزك وانتقاك. إن لم ترد أن تكون وحيدًا، فأنت بذلك ترفض دعوة المسيح لك، ولا تقدر أن يكون له نصيبٌ في شركة المدعوين. "تحدي الموت يأتي إلينا كلنا، ولا يقدر أن يموت شخص عن الآخر، بل على كل شخص أن يخوض معركته مع الموت بنفسه، .."لن أكون معكم في هذا الوقت، ولا أنتم معي" (لوثر).

لكن العكس أيضًا صحيح: ليتحذر كل من ليس هو جزء من الجماعة من أن يكون وحيدًا. لقد دُعيت إلى الجماعة، لم تسر الدعوة لك وحدك، في جماعة المدعوين تحمل أنت صليبك، تصارع، وتصلي. أنت لست وحيدًا، حتى في الموت، وفي اليوم الأخير ستكون فقط عضوًا واحدًا من جماعة يسوع المسيح الكبيرة إن استهنت بشركة الإخوة، فأنت ترفض بذلك دعوة يسوع المسيح، وبالتالي فاعتزالك سيتحول لك إلى كارثة. "إن مت، فأنا لست وحيدًا في الموت إن عانيت، فهم (شركة المؤمنين) يعانون معي" (لوثر).

نُدرك أننا نقدر أن نقف وحدنا فقط في الجماعة، ومن هو وحيدٌ، فقط هو من يستطيع أن يحيا في الشركة. كلاهما ينتمي للآخر. في الشركة فقط نتعلم كيف نكون وحدنا بطريقة صحيحة، وفي الاعتزال فقط، نتعلم أن نحيا في شركة جماعة المؤمنين بطريقة صحيحة. ليس الأمر وكأنما الواحد يسبق الآخر، فكلاهما يبدآن في نفس الوقت، أي بدعوة يسوع المسيح.

كلٌ على حدى له أشراكه وأخطاره العميقة. لذل فالشخص الذي يرغب في الشركة دون الاعتزال، هذا يسقط في فراغ الكلمات والمشاعر، والذي يسعى طلبًا في الاعتزال دون الشركة يهلك في هاوية الأباطيل، والإعجاب الشديد بالذات واليأس.

ليحذر كل من لا يقدر أن يكون وحيدًا من الشركة. ليحذر كل من ليس جزءًا من الشركة من أن يكون وحيدًا.

جنبًا إلى جنب مع يوم شركة العائلة المسيحية معًا يوجد يوم عزلة الفرد. هكذا يجب أن يكون الأمر. يوم الشركة يصبح غير مثمر بدون يوم العزلة، لكل من الجماعة والفرد.

علامة العزلة هي الصمت والسكون، مثلما الكلمة هي علامة الشركة. الصمت والكلمة لهما نفس العلاقة الداخلية والاختلاف مثل العزلة والشركة. الواحدة لا تصلح دون الأخرى. الكلمة الصحيحة تخرج من الصمت، والصمت الصحيح يخرج من الكلمة.

الصمت لا يعني أن يكون الشخص أبكم، كما لا تعني الكلمة، الثرثرة. أن يكون الشخص أبكم، هذا لا يخلق الاعتزال، والثرثرة لا تخلق الشركة. "الصمت هو الفيض، السُكر، وضحية الكلام. لكن أن يكون المرء أبكم هذا أمر غير مقدس، مثل شئ مشوه، غير مقدم لله.. زكريا أصبح أبكمًا بدلاً من أن يكون صامتًا. لو كان قد قبل الإعلان، لربما كان قد خرج من الهيكل صامتًا وليس أبكمًا." (أرنست هيلوErnest Hello). الكلمة، التي تبرر الشركة مجددًا وتوحدها، يصحبها الصمت. "للسكوت وقتٌ وللتكلم وقت" (جا3: 7). مثلما توجد ساعات محددة للكلمة في يوم المسيحي، خصوصًا وقت العبادة الجماعية والصلاة، كذلك يجب أن يكون لليوم أوقات محددة للصمت والسكون، تحت الكلمة ونابع منها. هذه الأوقات هي خصيصًا الأوقات التي تسبق سماع الكلمة وتلحقها. الكلمة لا تأتي للشخص الصاخب بل للصامت الساكن. السكون في الهيكل هو علامةٌ على حضور الله المقدس في كلمته.

يوجد توجه غير مبال، بل حتى رفض، يرى في الصمت انتقاصًا لإعلان الله في الكلمة. هذه هي وجهة النظر التي تسئ تفسير الصمت كإيماءة احتفالية، كرغبة باطنية للوصول إلى ما هو أبعد من الكلمة. لا يمكن التعرف على الصمت فيما بعد في علاقته الأساسية بالكلمة، كسكون بسيط للفرد تحت كلمة الله. نحن نسكت قبل سماع الكلمة؛ لأن أفكارنا تكون موجهة بالفعل نحو الكلمة، مثلما يصمت الطفل عندما يدخل إلى غرفة أبيه. نصمت بعد سماع الكلمة؛ لأن الكلمة لا تزال تتحدث إلينا وتعيش فينا مهيئة لها مسكنًا. نصمت في صباح اليوم الباكر؛ لأن الكلمة الأولى يجب أن تكون لله، ونصمت قبل الذهاب للنوم؛ لأن الكلمة الأخيرة أيضًا ملك لله. نصمت فقط من أجل الكلمة، وبالتالي فليس لعدم احترام للكلمة، بل بالأخرى لإكرامها بالحق ولاستقبالها. الصمت ليس إلا انتظارًا لكلمة الله والمجيء ببركة من كلمة الله. لكن الكل يعلم ضرورة تعلم هذا الأمر في وقت تسوده الثرثرة، وأن المعني بالضبط هنا هو الصمت الحقيقي، والسكون الحقيقي، أن يعقد المرء بحقٌ لسانه، ويأتي فقط كنتيجة واقعية واعية للسكون الروحي.

لكن هذا الصمت أمام الكلمة يفرض تأثيره على اليوم كله. لو تعلمنا أن نصمت أمام الكلمة، سنتعلم أيضًا كيف ندير صمتنا وتحدثنا طوال اليوم. هناك شئ يُدعى الصمت المحظور، المعجب بالذات، وهو صمتٌ متكبر، ومُهين. هذا معناه أن الصمت لا يعني أبدًا بالصمت في حد ذاته. صمت المسيحي هو صمت مصغي، سكون متواضع يمكن أن يُقطع في أي وقت في سبيل التواضع. هو صمت مقترن بالكلمة. هذا ما عناه توماس أ. كيمبيس Thomas a Kempis عندما قال: "لا أحد يتكلم بثقة غير هذا الذي يسكت بكل سرور" في الهدوء والسكون توجد قوة رائعة للصفاء، للتطهير، وللتركيز على الشيء الأساسي. هذا الأمر هو حقيقة عملية محضة. لكن السكون قبل الكلمة يقود المرء للاستماع الصحيح وبالتالي أيضًا للتحدث الصحيح بكلمة الله في الوقت المناسب. الكثير مما هو غير ضروري يبقى غير مُقال. لكن ما هو أساسي ومفيد يمكن أن يُقال في كلمات قليلة.

أينما تعيش شركة العائلة بالقرب من بعضها البعض في مكان محدد، ولا يكون للفرد الهدوء الذي يحتاج إليه، فإن أوقات الصمت المحددة لا غنى عنها. بعد فترة من الصمت نقابل الآخرين بطريقة مختلفة ومفعمة بالنشاط. فيما يختص هذا الأمر، تُؤّمن بعض التجمعات العائلية من خلال ضوابط ثابتة وقت للفرد ليقضيه وحده في سكون، وبالتالي تحمي الشركة نفسها هنا من الخسائر.

لن نناقش هنا كل الثمار الرائعة التي يمكن أن تنمو للمسيحي في الاعتزال والسكون. من السهل أن ننجرف عند هنا إلى طرق خطرة. حتى وإن أخبرنا البعض ببعض الخبرات السيئة والتي يمكن أن تنتج عن الصمت. الصمت يمكن أن يكون مثل صحراء مخيفة بكل ما فيها من خراب ورعب. كذلك يمكن أن يكون كجنة زائفة من خداع النفس، والأخيرة ليست أفضل من الأولى. لذلك، ليكن هذا كما هو، لا ينتظر أحد أي شئ آخر من الصمت سوى المقابلة البسيطة مع كلمة الله، التي لأجلها مارس الصمت. لكن هذه المقابلة ستُعطى له. المسيحي لن يضع أي شروط لما يتوقعه أو يتمناه من هذه المقابلة، بل يقبلها كما تأتي، وسيكافئ صمته بغنى.

هناك أهداف ثلاثة يحتاج لأجلها المسيحي، ولو لوقت محدد خلال اليوم، أن يقضي وقتًا وحده: التأمل في آيات الكتاب المقدس، الصلاة، والتشفع. هؤلاء الثلاثة يجب أن يكون لهم مكانهم في وقت التأمل اليومي. الأمر هنا لا يعتمد على هذه الكلمة. فهي مفهوم قديم في الكنيسة وفي الإصلاح، والذي نتناوله هنا.

قد يُطرح السؤال: لماذا نحتاج إلى وقت خاص للتأمل، بما أننا نتأمل بالفعل خلال الاجتماع الجماعي؟ ما يلي هو الإجابة على هذا السؤال.

فترة التأمل تخدم التأمل الشخصي للكلمة، الصلاة الخاصة الشخصية، والتشفع الشخصي، وليس لها أي أهداف أخرى. لا يوجد مجال هنا للتجارب الروحية. لكن يجب أن يوجد الوقت لتلك الأهداف الثلاثة هذه؛ لأن الله نفسه يطلبهم منا. حتى ولو كان بأذهاننا أنَّ معنى التأمل لوقت طويل ليس إلا أننا نؤدي خدمة ندين بها لله، فسيكون هذا كافيًا.

وقت التأمل لا يدعنا نسقط في الفراغ وفي هاوية الوحدة بل هو يدعنا نكون وحدنا مع الكلمة. بهذا يعطينا الأساس الصلب الذي نقف عليه، والتوجيهات الواضحة للخطوات التي يجب أن نتخذها.

قد نقرأ عادةً في اجتماعنا الجماعي أجزاء طويلة متتابعة من الكلمة، بينما في خُلوتنا وتأملنا الشخصي للكلمة قد نجد أنفسنا في مقطع مختار قصير، قد لا يتغير لمدة أسبوع كامل. إن نفاذنا من خلا لقراءتنا الجماعية للكلمة إلى طول وعرض الكتاب كله، يُدخلنا إلى الأعماق التي لا تسبر أغوارها لكل جملة وكلمة محددة. كلاهم ضروري بنفس الدرجة، "حتى تستطيعوا أن تُدركوا مع جميع القديسين ما هو العرض والطول والعمق والعلو" (أف 3: 18).

في تأملنا نفكر في النص المُعطى لنا كوعد على أنه شئ شخصي تمامًا لهذا اليوم ولحياتنا المسيحية. نعم، فكلمة الله ليست للكنيسة وحب، لكنها أيضًا لي بشكل شخصي. إلا أننا نُخضع أنفسنا للكلمة والجملة المحددة إلى أن تخاطبنا وتمسنا شخصيًّا. وبهذا، نحن لا نعمل أكثر مما يفعله يوميًّا المسيح البسيط غير المتعلم، إذ نقرأ كلمة الله على أنها كلمته لنا فقط. نحن لا نسأل إذًا عما يقوله هذا النص لأناس آخرين، ومعنى هذا لنا كواعظين أننا لن نسأل كيف سنعظ أو نُعلم من هذا النص، بل نسأل ما يقوله لنا نحن بشكل شخصي جدًّا. بكل تأكيد، لنقدر ان نفعل هذا علينا أولاً أن نكون قد فهمنا النص في سياقه. لكننا هنا لا نصنع تفسيرًا للنص، ولا نجهز عظة منه، ولا درس كتاب من أي نوع، بالأحرى ننتظر كلمة الله لنا. هذا الانتظار ليس انتظارًا فارغًا بلا معنى، لكنه انتظار على أساس وعد صريح. كثيرًا ما نكون مهمومين ومُحملين ومغمورين بأفكار أخرى، وصور، واهتمامات لدرجة أنه يمكن أن يستغرق وقت طويل حتى ما تزيح كلمة الله كل شئ آخر جانبًا وتخترقنا. لكنها حتمًا ما ستأتي إلينا، بنفس حتمية أن الله نفسه أتى للبشر وأنه سيأتي مرة أخرى. لهذا السبب عينه سنبدأ تأملنا بصلاة الله ليرسل روحه القدوس لنا من خلال كلته ويعلن كلمته لنا ويعطينا الاستنارة.

ليس من الضروري أن نتأمل في كل المقطع في جلسة واحدة. كثيرًا من يجب أن نتوقف عند جملة واحدة أو حتى كلمة واحدة؛ لأنها قد استوقفتنا، أمسكتنا ولا نقدر أن نتجنبها أو نهرب منها أكثر من ذلك. أليست كلمات مثل: "الأب"، "المحبة"، "الرحمة"، "الصليب"، "التقديس"، "القيامة" قادرة في كثيرٍ من الأحيان على ملء الفترة القصيرة لتأملنا بفيض؟

ليس من الضروري لنا أن نعنى في تأملنا بالتعبير عن أفكارنا وصلواتنا في صورة كلمات. الأفكار والصلوات الصامتة، النابعة فقط من الإصغاء كثيرًا ما تكون أكثر إفادة.

ليس من الضروري أن نكتشف أفكارًا جديدة في تأملنا. غالبًا ما يلهينا هذا الأمر فقط ويُشبع هباءنا. يكفي تمامًا الكلمة –كما نقرأها ونفهمها- تتغلغل وتسكن فينا. مثلما كانت مريم "تحفظ جميع هذا الكلام (كلام الرعاة) متفكرة به في قلبها" مثلما يتبعنا لوقت طويل ما نسمعه من كلام البشر، يلتصق بذهننا ويسكن ويعمل فينا، يشغلنا، يقلقنا أو يفرحنا، بدون أن يكون لنا القدرة على فعل أي شئ حياله، كذلك في التأمل تريد كلمة الله أن تدخل فينا وتبقى معنا. هي تسعى لتحريكنا، لتعمل وتأثر فينا، حتى لا ننفلت منها طوال اليوم. ثم تعمل عملها فينا غالبًا دون أن نكون على وعي بها.

وبالأخص، ليس من الضروري أن يكون لنا أي اختبارات غير متوقعة أو استثنائية في التأمل. يمكن أن يحدث هذا، ولكن إن لم يحدث، فهذا ليس علامة على أن فترة التأمل كانت بلا فائدة أو أنها كانت وقتًا ضائعًا. ليس فقط في البداية، ولكن بشكل متكرر أيضًا سيكون هناك أوقات ملحوظة نشعر فيها بجفاف داخلي عظيم، ولا مبالاة، ونفور، وعدم رغبة، أو حتى القدرة على التأمل. لكن لا يجب أن نُعاق من قبل مثل هذه الاختبارات. ففوق كل شئ، لا يجب أن نسمح لها أن تعوقنا عن الثبات بصبر عظيم وأمانة بفترة التأمل الخاصة بنا. لذلك، ليس جيدًا لنا أن نأخذ محمل جد هذي الاختبارات السيئة الكثيرة التي تحدث لنا ونحن مع أنفسنا في فترة التأمل، فهنا يتسلل هباؤنا القديم ومطالبنا غير المسموح بها من الله في منحنيات متدينة، وكان لنا حقًّا ما في أن يكون لنا الكثير من الاختبارات التي ترفعنا وتفرحنا، وكان اكتشاف فقرنا الداخلي هو دون كرامتنا. بمثل هذا التوجه لن نحرز أي تقدم. عدم الصبر وإيلام الذات سيعززان من رضانا عن أنفسنا فقط وتمركزنا حول الذات ويقيداننا أكثر فأكثر في شباك الفحص والتأمل والتركيز في الذات. غير أن وقت التأمل عادةً ما يكون قصيرًا أو ليس طويلاً بما يفتح المجال أمامنا للتمركز حول الذات، كما لا يوجد لها مجال في الحياة المسيحية ككل. علينا أن نركز انتباهنا على الكلمة وحدها ونترك كل شئ لتأثيرها. أفليس من الممكن أن يكون الله نفسه هو الذي يعطينا ساعات الجفاف والصحراء هذه، حتى ما نُحضَر مرة أخرى لانتظار كل شئ من كلمته؟ "اطلب الله، وليس الفرح" هذه هي القاعدة الأساسية لكل فترات التأمل. إن طلبت الله وحده، ستحصد الفرح: هذا هو وعد كل فترة تأمل.

التأمل الكتابي يقود للصلاة. سبق أن قُلنا إن الطريقة الواعدة للصلاة هي أن يسمح الشخص لنفسه ان ينقاد بالكلمة، أن يصلي على أساس كلمة الكتاب المقدس. بهذه الطريقة لا نُصبح ضحايا فراغنا الشخصي. الصلاة إذًا، لا تعني شيئًا آخر غير الاستعداد والرغبة لاستقبال الكلمة وتخصيصها لي في وضعي الشخصي، في مهامي المحددة، في قراراتي، وفي خطاياي، والتجارب. ما لا يمكن أن يدخل أبدًا في صلاة الشركة الجماعية، هذا يمكن أن يعلو في صمت هنا أمام الله. على أساس كلمة الكتاب المقدس نصلي لأجل الوضوح ليومنا، من أجل الحفظ من الخطية، من أجل النمو في التقديس، من الأجل الأمانة والقوة في علمنا. ويمكننا أن نتأكد أن صلاتنا ستستجاب؛ لأنه تنبع من كلمة الله ووعده. ولأن كلمة الله وجدت تحقيقها في يسوع المسيح؛ لذا فإن كل الصلوات التي نصليها بناء على هذه الكلمات تُسمع وتُستجاب وتُحقق بكل تأكيد في المسيح يسوع.

إحدى صعوبات التأمل الخطرة هي أن أفكارنا من المرجح أن تتبعثر بسهولة وتذهب في طرقها الخاصة، إلى أشخاص آخرين أو أحداث معينة في حياتنا. بقدر ما قد يكدرنا هذا ويخجلنا المرة تلو الأخرى، إلا أننا لا يجب أن نيأس أو نقلق، ولا حتى نستنتج أن وقت التأمل هذا لا يصلح لنا. عندما يحدث هذا، فغالبًا ما يساعدنا ألا نخطف أفكارنا رجوعًا بشدة، بل أن ندمج بهدوء شديد في صلواتنا الأشخاص والأحداث الذين يظل فكرنا شاردًا إليهم، وهكذا وبكل صبر، نرجع إلى نقطة البداية في التأمل.

مثلما نربط صلاتنا الشخصية بالمقطع الكتابي، نفعل الشيء نفسه بتشفعاتنا. من المستحيل أن نذكر في عبادتنا التشفعية الجماعية كل الأشخاص الذين هم تحت رعايتنا، أو حتى نذكرهم بأي شكل لنوفي حقهم في الصلاة بالطريقة المطلوبة منا. كل مسيحي له دائرته الخاصة من الناس الذين طلبوا منه أن يتشفع لهم، أو الذين يعلم أنه دُعي خصيصًا، لأسباب معينة، أن يُصلي لأجلهم. هؤلاء هم –أول كل شئ- الذين يجب أن يعيش معهم يوميًّا. هذا يُحضرنا إلى النقطة التي عندها نسمع دقات قلب كل الحياة المسيحية الجماعية. إنَّ شركة جماعة المؤمنين تحيا بتشفع أعضائها بعضهم لبعض، وإلا تنهار. فأنا لم أعد –كما لم يعد ممكنًا- أن أدين أو أكره أخًا أصلي لأجله، مهما كان مقدار المشاكل التي يسببها لي. وجهه، الذي ربما بدى لي غريبًا أو لا يُحتمل، يتحول في وقت التشفع إلى طلعة أخ مات المسيح عنه، إلى وجه خاطئ غُفرت له خطاياه ورُحم. هذا اكتشاف مفرح للمسيحي الذي يبدأ في الصلاة التشفعية. لا يوجد نفور، ولا توتر شخصي، ولا انشقاق لا يمكن التغلب عليه بالتشفع بقدر ما يعنينا. الصلاة الشفاعية هم حمام مُنقي يجب أن يدخل إليه الفرد والشركة يوميًّا. الصراع الذي نخوضه مع الأخ في الصلاة الشفاعية قد يكون صعبًا. لكن هذا الصراع له الوعد بأنه سيحقق هدفه.

كيف يحدث هذا؟ الصلاة الشفاعية لا تعني أكثر من إحضار الأخ إلى محضر الله، أن نراه تحت صليب المسيح كإنسان فقير وخاطئ، وفي احتياج للنعمة. وقتها يسقط كل ما ينفرني منه، وأراه في كل فقره واحتياجه حتى لو احتياجه وخطيته يظهران لي ثقيلان جدًّا ومُقمعين لدرجة أني أشعر بهما وكأنهما لي شخصيًّا، وقتها لن أقدر أن أفعل شيئًا آخر غير الصلاة: يا الله، تعامل أنت وحدك، تعامل معه شخصيًّا بحسب جديتك وصرامتك وصلاحك. أن تصلي صلاة شفاعية معناه أن نُعطي أخانا نفس الحق الذي نلناه، أي الوقوف أمام المسيح والاشتراك في رحمته.

هذا يوضح أن الصلاة الشفاعية هي أيضًا خدمة ندين بها لله ولإخوتنا، وتتطلب أن تُقدم يوميًّا. أمَّا الذي يحرم الآخر من خدمة الصلاة من أجله فهو يحرمه من الخدمة المسيحية الحقَّة. علاوة على ذلك، الصلاة الشفاعية ليست صلاة عامة وغامضة، بل هي محددة جدًّا: معنية بأشخاص محددين وصعوبات محددة وبالتالي بتضرعات محددة. كلما أصبحت صلاتي الشافعية محددة، كلما كانت واعدة.

أخيرًا، لم يعد مقبولاً أو ممكنًا أن نتهرب، بالأخص في هذا الزمان، من حقيقة أن خدمة التشفع تتطلب وقتًا من كل مسيحي، وبالأكثر من القس الذي على عاتقه مسؤولية كل جماعة المؤمنين. الصلاة الشفاعية وحدها، إن تمت ممارستها بشكل صحيح، ستستهلك كل الوقت المحدد للتأمل اليومي. في كل هذا يثبت أن الصلاة الشفاعية هي عطية نعمة من الله لكل جماعة مؤمنين وكل مسيحي. ولأنه تُقدم لنا هنا عطية كبيرة وعظيمة بشكل لا يقاس، فيجب علينا أن نقبلها بفرح. والوقت الذي نقضيه في الصلاة الشفاعية سيتحول ذاته إلى مصدر للفرح اليومي بالله وبشركة جماعة المؤمنين.

بما أن التأمل في الآيات الكتابية، الصلاة، والتشفع هم خدمة نحن مدينون بها، وبسبب أن نعمة الله توجد في هذه الخدمة؛ لذا علينا أن نُدرّب أنفسنا على تخصيص ساعة محددة من اليوم لهم، مثلما نفعل لكل خدمة أخرى نقوم بها. هذا ليس قانونًا بل هو نوع من أنواع التنظيم والأمانة. لمعظم الناس يثبت أن الصباح الباكر هو الوقت الأمثل. لنا الحق في هذا الوقت، حتى أمام الأشخاص الآخرين ومطالبهم، ويمكنننا أن نُصر على أن نقضي هذا الوقت تمامًا دون إزعاج، وفي هدوء بالرغم من كل الصعوبات الخارجية. أمَّا بالنسبة للقس، فهذا الوقت هو واجب أساسي لا يمكن التخلي عنه، وكل خدمته تعتمد عليه. فمن يقدر فعليًّا أن يكون أمينًا في الأشياء العظيمة إن لم يتعلم أن يكون أمينًا في الأشياء المعنية بالحياة اليومية؟

كل يوم يقضي المسيحيُّ كثيرًا من ساعات يومه وحيدًا وسط بيئة غير مسيحية. هذه هي أوقات التجربة. هذا هو اختبار التأمل الحقيقي وشركة المؤمنين الحقيقية. هل قدمت شركة المؤمنين الخدمة للفرد بأن جعلته حرًّا، قويًّا، وناضجًا، أم جعلته ضعيفًا واعتماديًّا؟ هل أخذت بيده لمدة محددة حتى ما يتعلم مرة أخرى أن يخطو بخطواته الشخصية، أم جعلته خائفًا وغير واثق؟ هذه هي أحد الأسئلة الجادة والصعبة التي يمكن أن تُطرح لأي شركة جماعة المؤمنين. علاوة على ذلك، فهذا هو المكان الذي نكتشف فيه ما إذا كان وقت التأمل المسيحي قد قاد الشخص إلى عالم ما هو غير واقعي، والذي يفيق منه في رعب عندما يخرج إلى العالم الأرضي لعمله، أم قاده إلى عالم الله الحقيقي، والذي يخرج منه مقوى ومُنقى لقضاء يومه؟ هل نقله للحظات قليلة إلى نشوى روحية والتي تتلاشى عندما تعود الحياة اليومية إلى طبيعتها، أم غرزت كلمة الله في قلبه بوعي وعمق حتى إنها تدعمه طول اليوم وتبقيه وتقويه. وتحضه على المحبة العملية، والطاعة، والأعمال الصالحة؟ اليوم فقط هو ما يحدد. هل الحضور غير المنظر لشركة المؤمنين حقيقة ومصدر عون للفرد؟ هل تشفعات الآخرين ترفعني خلال اليوم؟ هل كلمة الله قريبة مني كمصدر عزاء وقوة؟ أم أُسيء استخدام العزلة ضد الشركة، والكلمة والصلاة؟ يجب أن يُدرك الفرد أن حتى ساعات عزلته تؤثر على الجماعة. في عزلته يمكنه أن يمزق الشركة ويلطخها، أو يمكنه أن يقويها ويجعلها أكثر قداسة. أي عمل من أعمال ضبط النفس الذي يمارسه المسيحي هو خدمة لشركة المؤمنين أيضًا. من الناحية الأخرى لا توجد خطية في الفكر، في القول، أو في الفعل مهما إن كانت شخصية وخفية وسرية لا تصيب شركة المؤمنين ككل بالخسائر. عنصر المرض يدخل الجسد، قد لا يعلم أحد من أين أتى، أو في أي عضو تغلغل، لكن الجسد كله مسمم. هذه هي الاستعارة المناسبة لشركة المؤمنين. لأننا نحن أعضاء في جسد واحد، ليس عندما نريد أن نكون فقط، ولكن في كل كينونتنا، فكل عضو يخدم الجسد ككل، إما لصحته أو لدماره. هذه ليست مجرد نظرية، بل هي حقيقة روحية. وكثيرًا ما اختبرت شركة المؤمنين تأثيرها بوضوح هزها، في بعض الأحيان بدمار مهلك وفي أحيان أخرى للفرح.

الشخص الذي يعود لشركة العائلة المسيحية بعد أن خاض معركة اليوم يُحضر معه بركة جلسته في عزلة، أما هو شخصيًّا فيستقبل من جديد بركة الشركة. مباركٌ هو الشخص الذي هو وحيدٌ في قوة شركة جماعة المؤمنين ومبارك هو الشخص الذي يُبقي على الشركة بقوة العزلة. لكن قوة العزلة وقوة الشركة هما فقط قوة كلمة الله لا غير ولا أكثر، والتي تخاطب الفرد في الشركة وتُطبق عليه.

 

ديتريش (ديتريك) بونهوفر

من كتاب "الحياة معاً"

 

 

 

قل رأيك بصراحة

تعرضت للحرمان العاطفي كطفل تحت سن 15 عام

نعم - 74.3%
لا - 25.7%

Total votes: 1664
The voting for this poll has ended

خواطر وأفكار جديدة

اعتناق الضعف؛ جرأة عظيمة

 

جرأة شديدة.. جرأة عظيمة

خرافة رقم 1، "إن الضعف عجزٌ، الضعف نقصٌ". هذه هي الخرافة والمسلّمة الأكثر شيوعًا والأكثر خطورة كذلك.

إقرأ المزيد...

كن من اصدقائنا