تعلٌم فن الوجود/الكينونة

إيريك فروم ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

1- التركيز

 

لقد أصبحت القدرة على التركيز مسألة نادرة في حياة الإنسان السيبراني/الآلي [*]cybernetic (كناية عن الإنسان في عصر الآلة والتكنولوجيا)،

بل يبدو وكأنه يفعل كل شئ يجنّبه التركيز. فهو يُفضل أن يقوم بعدة مهام في الوقت نفسه، مثل الاستماع إلى الموسيقى، القراءة، تناول الطعام والحديث مع أصدقائه. هنالك فيلم كرتوني تمكن من التعبير عن هذه النزعة بإيجاز: قام رجل بتثبيت التلفاز على الجدار وراء سريره، فصار بإمكانه مشاهدة التلفاز أثناء ممارسته للجنس.

والحق أن التلفاز هو معلّم جيد لـ "اللا تركيز"، وذلك بالمقاطعات الإعلانية للبرنامج الذي يقوم المرء بمتابعته، فيصبح المتابع مشروطًا بحالة عدم التركيز. وتُظهر عادات القراءة النزعات ذاتها، إذ أن موضة إعداد ونشر الأنطولوجيات توضّح هذه النزعة. والأسوأ من ذلك هو عندما يقوم مؤلف بعرض أجزاء من كتابه على أنها بدائل عن قراءة كتابه بالكامل، وهكذا لا يضطر المرء لأن يركز على ما يقرأه كي يتمكن من استيعاب النظام المعقد للأفكار الواردة في الكتاب، بل يحصل على خلاصة الأفكار بقدر أقل من التركيز. إن العديد من الطلاب لا يقرأون الكتاب بالكامل، حتى في حال عدم وجود مقتطفات أو ملخص للكتاب، فهم يكتفون بقراءة المقدمة والخاتمة وبضع صفحات سبق أن أشار إليها البروفيسور، وهكذا فإن الطالب "يعرف" أفكار الكاتب، بشكلٍ سطحي، دون الحاجة إلى التركيز.

من المؤكد ان المراقب لمعدل التبادلات اللفظية لابد أن يلحظ قلة التركيز على المادة المطروحة، وعلى حديث الشخص المحاور أثناء إجراء المحادثة. وكذلك عندما يكون الأشخاص بمفردهم، فإنهم يتجنبون التركيز على أي شئ، وسرعان ما يلتقطون الصحيفة، وهذا ما يسمح لهم بالقراءة السهلة ولا يتطلب منهم تركيزًا حقيقيًّا.

إن التركيز ظاهرة نادرة لأن رغبة الفرد لا تتجه إلى أمرٍ واحدٍ فحسب، ولأنه لا يوجد ما يستحق بذل جهد للتركيز عليه، ولعدم وجود هدف لمتابعته بشغف. لكن هنالك المزيد لأسباب ندرة ظاهرة التركيز: يخشى الناس من التركيز لأنهم يخشون أن يفقدوا ذواتهم إذا ما استغرقوا للغاية بشخصٍ آخر، أو بفكرةٍ ما، أو بحدثٍ ما. وكلما ضعفت ذات المرء تتعاظم خشيته من فقدانها أثناء التركيز على ما هو ليس ذاته. وبالنسبة لشخص لديه نزعة تملّك مهيمنة، فإن خوفه من ضياع ذاته هو أحد العوامل الأساسية الذي يجعله يتوجه إلى عكس التركيز. وأخيرًا، فإن التركيز يتطلب حيوية داخلية وليس حالة إلى عكس التركيز. وأخيرًا، فإن التركيز يتطلب حيوية داخلية ليس حالة من الانهماك، وهذا النوع من النشاطات نادر في يومنا هذا، إذ أن الانهماك هو مفتاح النجاح.

وثمة سبب آخر يدفع الناس إلى الخوف من التركيز: فهم يعتقدون خاطئين أن التركيز نشاط مرهق للغاية، وأنهم سوف يتعبون بسرعة. والحق أن العكس صحيح، وبإمكان أي امرئ مراقبة نفسه. فالنقص في التركيز يجعل المرء متعبًا، بينما يجعله التركيز يقظًا، وهذا ليس بالأمرٍ الخفي.

تكمن صعوبة التركيز، تبعًا للتحليل الأخير، في حصيلة البنية الكاملة لنظام الإنتاج والاستهلاك المعاصر. فكلما ازداد عمل الإنسان لخدمة الآلة، أو تصرفه وكأنه جزء من آلة لم يتم تصنيعها من الحديد أو الفولاذ، تقلّصت فرصه للوصول إلى التركيز. إن إجراءات (عملية) العمل شديدة الرتابة لأن تسمح بالوصول إلى التركيز الحقيقي، وكذلك الأمر مع فعل الاستهلاك. فالسوق يعرض أكبر قدر ممكن من أجزاء مختلفة من السلع المسلية، وبوجود هذه التشكيلة الكبيرة من المسلّيات لا يعود من الضروري أو حتى من الممكن التركيز على شئٍ واحدٍ فقط. فماذا سيحل بالصناعات إذا ما بدأ الناس يركزون على أشياء معينة فقط، عوضًا عن اندفاعهم لشراء أشياء جديدة مسلية، فقط لأنها جديدة، ولأنهم ضجروا بسرعة من الأشياء القديمة التي يملكونها؟

كيف يتعلم المرء التركيز؟ يجب ألاّ تكون الإجابة على هذا السؤال مختصرة للغاية أو مطوّلة للغاية، ولكن نظرًا لضيق المساحة لابد من الاختصار بعض الشيء.

كخطوة أولى أقترح عليك أن تقوم بالتدرب على السكون التام، ويعني هذا بشكل ملموس أن تجلس بسكون تام، لنقل مثلاً لعشر دقائق، بحيث لا تأتي بأية حركة، حاول قدر الإمكان ألاّ تفكر بأي شئ، ولكن في الوقت نفسه يجب أن تُدرك ما يجري داخلك. إن كل من يعتقد أن القيام بهذا الأمر سهل فهو لم يجربه قبلاً، ومن سيحاول القيام بهذا سيعرف على الفور أنه أمر بالغ الصعوبة، وسوف يلاحظ أن يتململ، ويُحرك ذراعه ورجله وأعضاء مختلفة في جسده. ويلاحظ هذا الأمر عندما يتخذ وضعية الجلوس الكلاسيكية التي يتخذها الفراعنة ونراها في تماثيلهم وصورهم: حيث تظهر الساقان غير متقاطعتين، لكنهما في الوقت ذاته ثابتتان إلى الأمام، والذراعان تتموضعان إما على ذراعي الكرسي أو على الفخذين. لكن هذه الوضعية يجب ألاّ تكون مشدودة وصلبة كما نتعلمها في التمارين الرياضية العتيقة الطراز ذات النمط العسكري، ولا حتى أن تكون متراخية وكسولة. إنها وضعية مختلفة: إن الجسد يتخذ وضعية متناغمة، يشعر بأنه حي ومرتاح بطريقة متفاعلة. وإذا تعلم المرء هذه الطريقة في الجلوس، فسوف لن يشعر بالراحة عندما يجلس على كرسي يحتوي على حشوة سميكة، بل سيرتاح عندما يجلس على كرسي صلب.

إن تمرين الجلوس هذا هو الخطوة الأولى على طريق تعلّم التركيز، ويجب أن تزداد مدته الزمنية من عشر دقائق إلى خمس عشرة دقيقة لتصل بعد ذلك إلى عشرين دقيقة، كما يجب القيام بالتمرين كل صباح، ومن المحبذ ممارسته كل مساء من خمس إلى عشر دقائق، وإذا كان هنالك وقت فيمكن إضافة مرة أثناء اليوم. وبعد الوصول إلى مستوى معين من السكون –ربما يحتاج تحقيق هذا الإنجاز من شهر إلى ثلاثة أشهر- يُوصى بإضافة تمرين التركيز المباشر أثناء أو بعد التمكن من الوصول إلى حالة السكون. من الناحية العملية يمكن القيام بالتركيز المباشر بطرق مختلفة، إذ يستطيع المرء أن يركز على عملة ما، حيث يتأمل كافة تفاصيلها بالكامل، إلى الحد الذي يتمكن فيه من رؤيتها بكافة تفاصيلها حتى عندما يغمض عينيه، أو يمكن استخدام شئ آخر: مزهرية، ساعة، هاتف، زهرة، ورقة، قطعة حصى، أو أي شئ يرغب المرء في جعله نقطة تركيزه، أو يمكن جعل نقطة التركيز كلمة معينة.

لأشهر عدة سوف تتابع الأفكار المختلفة المرور عبر عقل المرء ومقاطعة تركيزه، وفي هذه الحالة لا ينفع العنف، تمامًا كما أنه لا ينفع مع كل ما هو حي. إذ أن محاولة طرد الأفكار العابرة بالقوة أو التعامل معها على أنها أعداء، سيزيد الأمر سوءًا، إذ سيشعر المرء بالهزيمة إذا لم يكسب المعركة معها. ولذلك يجب معاملة هذه الأفكار بطلف، وهذا يعني أن على المرء التعامل بصبر وأناة مع ذاته (نفاذ الصبر هو عادة نتيجة نوايا الفرض والإجبار). وببطء، ببطء شديد حقًّا، ستختفي الأفكار المتطفلة على التوالي، وتدريجيًّا تزداد قدرة المرء على التركيز.

إن العقبة الأخرى والأكثر صعوبة هي النعاس، وسيجد المرء نفسه بصورة متكررة على حافة الغفوة. وهذا أيضًا يجب أن يأخذه المرء في حسبانه. هنا يمكن إعادة المحاولة مباشرة مرة أخرى، أو أن يأخذ بضعة أنفاس عميقة، وإذا استمر النعاس فيمكن للمرء التوقف والمحاولة مرة أخرى في وقت أفضل. إن تجاوز هذه الصعوبات اثناء عملية التعلم هو ما يجعل تعلم التركيز بالغ الصعوبة، إذ يتراجع الكثير من الأشخاص، إن لم يكن معظمهم، بعد مدة، ومن المحتمل أن ينتقدوا ذواتهم لعدم نجاحهم في الوصول إلى التركيز، أو قد يقومون بعقلنة فشلهم، ويقرون أن الطريقة بحد ذاتها ليست جدية بكل الأحوال. وفي هذه الحالة فإن القدرة على تحمّل الفشل، تمامًا مثل المرور بمراحل التعلم الأخرى، ذات أهمية قصوى.

وفقط إذا كان المرء يعرف أن الطريق إلى التركيز، كما هو الطريق إلى أي إنجاز، يحمل معه بالضرورة إخفاقات، وخيبات امل، عندئذٍ فقط يمكنه تجنب الوهن الحتمي المرافق لعملية تعلم التركيز.

يجب أن تترافق التمارين البسيطة المذكورة أعلاه، أو يتم اتباعها، بالتدريب على تركيز الأفكار والمشاعر. كأن يقرأ المرء كتابًا حول موضوع هام يمكن الافتراض أن لدى مؤلفه شيئًّا هامًا يريد أن يقوله، ويمكن للمرء مراقبة الطريقة التي يقرأ بها الكتاب: هل هو يشعر بالانزعاج بعد ساعة؟ هل يحاول أن يتجاوز عدة صفحات من الكتاب؟ أو، هل يكفر بحجة الكاتب ويصوغ إجاباته عليها، ويحضر أفكار جديدة لنفسه؟ أو هل يحاول فهم ما الذي يعنيه الكاتب حقًّا أكثر من تمسكه بالمراجعات النقدية حول هذه النقطة أو تلك، ليتمكن من دحض حجة الكاتب؟ أو إذا ما كان يريد تعلّم شئ جديد، أو لديه وجهات نظر محددة تؤكدها مباشرة، أو بشكل غير مباشر، أخطاء وجهة النظر المعاكسة؟

هذه هي بعض الأعراض التي تساعدنا لمعرفة ما إذا كنا نقرأ بتركيز عالٍ أم لا. وإذا اكتشفنا أننا لا نركز أثناء القراءة، فعلينا أن نتدرب على ذلك بأن نركز على جوهر فكرة الكاتب، وغالبًا ما يعني هذا تناقص عدد الكتب التي سنقرأوها.

لا تختلف عملية التركيز على الأشخاص عن التركيز على الأفكار، ويجب أن أترك هذا الأمر لكل قارئ بحسب تجربته ليجمع المادة اللازمة للنظرية: معظم علاقاتنا الشخصية تعاني من الغياب الكامل للتركيز. فنحن ميّالون لأن تكون أحكامنا على الشخصية ضعيفة، ونحن لا نذهب أبعد من محاولاتنا لاستيعاب القشور الشخصية الأخرى، أي: ماذا يقول هذا الشخص؟ وكيف يتصرف؟ وما هو منصبه؟ وطريقة ملبسه؟ باختصار نحن نراقب القناع الذي يُظهره الشخص لنا، وليس ما هو أبعد من القشور، فننزع القناع ونتعرف على الشخص وراءه. وهذا ما يمكننا فعله إذا ما قمنا بالتركيز عليهن لكن يبدو أننا نخشى أن نعرف الأشخاص معرفة كاملة، بما في ذلك أنفسنا.

تتناقض الفردية مع العملية الجارية بسلاسة، فالمراقبة المركّزة لشخص ما تجبرنا على الاستجابة بالتعاطف والاهتمام، أو ربما بالرعب. وهذه الاستجابات جميعًا ليست محبذة بالنسبة للتوظيف المربح للمجتمع السايبتيمتيك. إننا نريد الحفاظ على المسافات الموجودة بيننا وبين الآخرين، كما أننا نريد التعرف على بعضنا البعض فقط بالقدر الضروري لنتمكن من العيش سوية، وأن نتمكن من التعاون والوصول إلى الشعور بالأمان، وهكذا فإن المعرفة السطحية أمر مرغوب به، في حين أن المعرفة التي نحققها نتيجة للتركيز سوف تربكنا.

وهنالك أشكال أخرى مفيدة من التركيز، مثل أنواع محددة من الرياضات كالتنس وتسلق الجبال وألعاب أخرى كالشطرنج والعزف على الآلات الموسيقية والرسم والنحت، ويمكن القيام بكل هذه الأنشطة بشكل مركز أو بشكل غير مركز.

 

2- التأمل، والتحليل النفسي الذاتي

 

من بين طرق ممارسة التركيز، هناك طريق واحد يوصل إلى واحدة من أساسيات تعلّم فن الوجود: إنه التأمل.

بدايةً يجب التمييز بين نوعين مختلفين من التأمل: الأول: حالات النشوة الخفيفة ذاتية التحفيز والتي تستخدم تقنيات الإيحاء الذاتي. يمكن لهذا النوع من التأمل أن يقود إلى الاسترخاء النفسي والذهني ويجعل المتدرب يشعر بالراحة، وبأنه استعاد قواه وأصبح لديه طاقة أكثر من ذي قبل.

وبالتناقض مع أشكال التحفيز الذاتي للتأمل توجد حالات التأمل الثانية، وهي الحالات التي تهدف بشكلٍ رئيسي إلى تحقيق درجة أعلى من اللا – لارتباط واللا - جشع، واللا – وهم، أو باختصار، لتحقيق درجة أعلى من كل ما يخدم الوصول إلى مستوى أرقى من الوجود.

إذا وجب أن يكون استكشاف اللاوعي للمرء جزءًا من التأمل، فإن السؤال المطروح هنا إذا كان باستطاعة المرء أن يحلل نفسه كجزء من ممارسته للتأمل. لاشك أن هذا الأمر بالغ الصعوبة.

 

أساليب التحليل النفسي الذاتي:

سوف يتطلب الأمر كتابًا منفصلاً للحديث بالتفصيل عن كيفية تعلم التحليل الذاتي، وهكذا يجب أن أحدد نفسي هنا إلى بعض الاقتراحات البسيطة.

قبل البدء بالتحليل النفسي الذاتي، على المرء أن يكون قد تعلم كيفية البقاء في حالة السكون، وكيفية الجلوس باسترخاء، والتركيز.

عندما يتم تحقيق هذه الظروف الأولية، ولو في أدنى حدودها، يصبح بإمكان المرء المتابعة في طرق مختلفة لا تُقصى إحداها الأخرى.

1) يحاول المرء أن يتذكر الأفكار التي كانت تشاغله أثناء محاولته الوصول إلى السكون، ومن ثم "يتلمس المرء طريقه إلى داخل تلك الأفكار" بهدف معرفة إذا ما كان لأي منها تأويلات، ومعرفة هذه التأويلات في حالو وُجدت. أو ربما يراقب المرء بعض الأعراض التي تنتابه، مثل شعوره بالتعب (على الرغم من أخذ القسط الكافي من النوم)، أو إحساسه بالكآبة، أو الغضب، وعندما يخمّن فيما إذا كان أيًا منها رد فعل، وأيها تجربة لا واعية جراء شعور واضح وصريح.

وهنا أتعمد أن لا أقول "أن يفكر" لأن المرء لن يتوصل إلى إجابة بالتفكير النظري، فهو في أفضل الأحول سيصل إلى تخمين نظري. ما قصدته بـ "أن يخمّن هو أن يقوم بـ "اختبار" متَخيّل لمشاعر مختلفة محتملة –إلى أن تظهر حالة إدراك معينة وبشكل واضح على أنها الأصل لتجربة واعية، لنقل، عن الإعياء. فمثلاً: يحاول المرء أن يتخيل لحظات سابقة للإعياء، ويحاول إدراك سببها، وهنا قد يُهيئ للمرء مجموعة احتمالات يعتبرها السبب وراء الإعياء، مثل تأجيل مهمة صعبة بدلاً من مواجهتها، أو شعورًا متناقضًا تجاه صديق أو شخص يحبه، أو انتقاد أذى نرجسيته إلى درجة التسبب باكتئاب بسيط، أو ادعاءه صداقة أحد الأشخاص أثناء لقاءه معه، وفي الحقيقة أن ليس من صداقة بينهما أصلاً.

وهنا أورد مثالاً أكثر تعقيدًا: وقع رجل في غرام امرأة، فجأة وبعد بضعة أشهر، بدأ يشعر بالتعب، والكأبة، وفتور المشاعر، وأخذ يحاول إيجاد كافة التفسيرات العقلانية لما كان يمر به، كأن يقول إن عمله لا يسير على ما يرام (والذي قد يكون تأثر حقًّا بالسبب ذاته الذي سبب له الإنهاك)، أو إن أمله خُيب أو إنه حزن لتطورات سياسية معينة، أو قد يكون السبب أنه قد أُصيب بنزلة برد حادة، وهكذا يكون قد أوجد لنفسه إجابة مُرضية. لكن إذا كان هذا المرء مرهف الحساسية، فقد ينتبه إلى أنه قد أصبح مؤخرًا ينزع إلى إيجاد العيوب في أشياء بسيطة في حبيبته، أو أنه قد يلاحظ أنه كان سابقًا يتلهف إلى ملاقاتها، أما الآن فهو يجد أسبابًا لتأجيل لقاءات خططا لها من قبل. وقد تقوده هذه الإشارات الصغيرة، وكثير سواها، إلى أن هنالك خطبًا ما في علاقته معها. إذا كان قادرًا على التركيز على مشاعره، فربما يتضح بالنسبة إلبه أن الصورة التي رسمها لهذه الفتاة قد تغيرت، وأنه في بداية تطور انجذابه الجنسي والإيروتيكي إليها لم يلاحظ بعض السمات السلبية، وأن ابتسامتها الحلوة أصبحت مصطنعة بل وباردة.

وربما يكون قد تتبع أثر هذا التحول في حكمه إلى ليلة معينة، قبل لقائهما، عندما دخل الغرفة وراقبها وهي تتحدث مع الآخرين. فشعر عندئذٍ أن هنالك خطبًا ما، لكنه تجاهل هذا الشعور على أنه "نفسي" أو غير عقلاني، لكنه في الصباح التالي استيقظ وهو يشعر أنه مكتئب، وهذا ما عانى منه منذ أسابيع عدة إلى الآن. لقد حاول أن يكبت إدراكه الجديد، وشكوكه، لأنه، وهو يعيش في مرحلة الحياة الواعية، فإن سيناريو الحب والإعجاب لا يزال صالحًا للتمثيل بالنسبة له. لكن الصراع ظهر بشكل غير مباشر كونه أصبح في موقف حرج، أو كونه أصبح فاتر المشاعر ومكتئبًا لأنه لم يعد بإمكانه متابعة "علاقة الحب" بنفس المشاعر المرحة والصادقة التي بدأ فيها، كما أنه ليس بإمكانه الآن إنهاءها، لأنه قد كبت إدراكه للتغيير في مشاعره. وحالما يفتح عينيه على هذه الحقيقة، ربما يصبح بإمكانه استعادة شعوره بالحقيقة، ويرى بوضوح ما الذي يشعر به، فيمكنه إنهاء العلاقة بألم حقيقي، إنما دون كآبة.

وهنا أورد مثالاً أخر عن التحليل النفسي للأعراض: رجل أعزب في منتصف الأربعينات يعاني من وسواس قهري، فهو يرتعب كلما غادر منزله من أن يكون قد نسى إطفاء الفرن الكهربائي، وأن النار ستلتهم منزله بالكامل، وخصوصًا مكتبته القيمة. ونتيجة لذلك، فإنه يشعر بأنه مجبر على العودة إلى المنزل كلما غادره، وهذا دافع قهري يُعكر عليه أنشطته اليومية العادية.

ولهذا العارض تفسير بسيط، فمنذ خمس سنوات خلت خضع هذا الرجل إلى عملية استئصال لكتلة سرطانية، وحينها ذكر له الطبيب المعالج شيئًا عن أن كل شئ على ما يرام، باستثناء إمكانية عودة انتشار الخلايا الخبيثة مرة أخرى خلال السنوات الخمس القادمة "والتي يمكن أن تنتشر بسرعة النار". فالرجل كان مرعوبًا للغاية من هذه الإمكانية، ما جعله يكبت الفكرة تمامًا في عقله الواعي، ويستبدلها بفكرة الخوف من اندلاع النار في منزله.

إن الإجراء الذي يتخذه "العقل الواعي" يمنح صاحبه عادةً شعورًا بالارتياح، بل وبهجة، على الرغم من أن مضمون الإجراء نفسه قد لا يكون سارًا. بالإضافة إلى ذلك، ومهما يكن العنصر المكتشف حديثًا، فإن اتباعه بالتخمينات لاحقًا سوف يقود على الأغلب إلى بعض الاكتشافات الجديدة أو إلى عواقب، وذلك في اليوم نفسه أو فيما بعد. وليس من الضروري الوقوع في فخ التصريح بتكهنات نظرية معقدة.

2) مقاربة أخرى هي تلك التي توازي أسلوب الشراكة الحرة، حيث يتخلى المرء عن التحكم بأفكاره، كما يسمح بتلقي الأفكار الأخرى، ويحاول أن يفحصها بهدف اكتشاف ارتباطات خفية بينها، ونقاط مقاومة حيث يشعر المرء أنه يوقف قطار أفكاره –إلى أن تتقدم عناصر معنية لم تكن موجودة في عقله الواعي إلى مقدمة وعيه.

3) ومقاربة أخرى هي السيرة الذاتية، وأعني بهذا تكهنات حول ماضي المرء، بدءًا من الطفولة المبكرة وانتهاءً بالتطور المستقبلي المنظور. حاول أن تحصل على صورة للأحداث الهامة، لمخاوفك الأولى، آمالك الأولى، خيبات أملك الأولى، والأحداث التي قلّصت من ثقتك وإيمانك بالناس وبنفسك أيضًا.

اسأل نفسك السؤال التالي: على من أعتمد؟ ما هي مخاوفي الكبرى؟ ماذا كان مقدرًا لي أن أكون عندما خلقت؟ ماذا كانت أهدافي وكيف تغيرت؟ ماذا كانت العقبات التي ظهرت في طريقي عندما اتخذت اتجاهًا خاطئًا أو طريقًا خاطئًا؟ ما هي الجهود التي بذلتها لأصحح الخطأ وأعود إلى الطريق السليم؟ من أنا الآن، ومن سأكون إذا كنت قد اتخذت دائمًا القرارات الصائبة وتجنبت الأخطاء المصيرية؟ من هو الشخص الذي كنت أريد أن أكونه في الماضي، والحاضر، والمستقبل؟ ما هي الصورة التي رسمتها لنفسي؟ وما هي الصورة التي أرغب أن يراها الآخرون عني؟ أين هي التناقضات بين الصورتين؟ وما هي التناقضات بين الصورتين وبين ما أشعر أنه نفسي الحقيقية؟ من هو الشخص الذي سأكونه إذا استمريت في العيش كما أفعل الآن؟ ما هي الظروف المسؤولة عن التطور الذي تعرضتُ له؟ ما هي البدائل المتاحة أمامي لتطور إضافي؟ ما الذي يجب علي فعله لأستوعب الاحتمالات التي أختارها؟

4) الأمر الذي يرتبط بشكل وثيق بالمقاربة السيرية الذاتية هو أن المرء يحاول الكشف عن التناقضات الموجودة بين أهدافه الواعية في الحياة وتلك التي لا يعيها، لكنها تقرر حياته. في داخل الكثير من الأشخاص ثمة روايتان من هذا النمط: رواية واعية، وهي الرواية "الرسمية"، بشكلها المعروف، والتي هي قصة غلاف لرواية سرية تسيطر على سلوكنا. إن التناقض بين الروايتين الواعية والسرية يظهر في العديد من المسرحيات اليونانية، والتي تُسند فيها "الرواية السرية" إلى "القدر" (MOIRA). فالقدر هو الشكل المغاير من رواية العقل الغير الواعي داخل الإنسان، والذي يُقرر له حياته. فمثلاً تُظهر مسرحية أوديب هذا التناقض بكل وضوح: إن الرواية السرية لأوديب هي أن يقتل والده ويتزوج والدته، في حين أن عقله الواعي وقصة حياته المعدّة يسعيان إلى تجنب هذه الجريمة تحت أي ظرف، لكن الرواية السرية هي الأقوى، وتسير ضد رغبته، ودون إدراكه لما يفعله. إنه يعيش تبعًا للرواية السرية.

تختلف درجة التناقض بين الروايتين الواعية وغير الواعية بشكل كبير بين الناس، فمن جهة هنالك الأشخاص الذين ليس لديهم رواية سرية، لأن الشخص قد نضج إلى حد بعيد، حتى أصبح متحدًا بالكامل مع نفسه، وهو لا يحتاج إلى ان يكبت أي شئ داخله. ومن جهة أخرى، لا يوجد رواية سرية لأن المرء قد اتحد مع نفسه "الشريرة" حتى أنه لا يحاول أن يدعي أن هنالك "نفس أفضل". والحالة السابقة تدعى أحيانًا بـ"النفس المجردة" أو "النفس المتيقظة". أما الحالة الثانية فهي تصف أناسًا مرضى بشكل حاد، والذين يمكن استخدام عدد من التشخيصات إلى حالتهم، لكن ليس هناك ما يضاف إلى ذكائهم. يمكن للغالبية العظمى من الناس أن تكون متآمرة على الصلة بين الطرفين النقيضين، لكن حتى مع المجموعة المعتدلة هنالك فارق هام: هنالك فئة ممن تكون روايتهم الواعية عبارة عن حالة مثالية لما يميلون باتجاهه، لذلك تكون الروايتين متشابهتين بشكل أساسي. وبالنسبة للفئة الأخرى، فإن راوية الغلاف هي النقيض تمامًا للرواية السرية، إنها تُستخدم فقط لإخفائها لكي يتمكن الشخص من اتباعها بشكل أفضل.

وفي حالات التناقض الكبرى بين الروايتين تظهر الصراعات الحادة، والشعور بعدم الأمان، والشكوك، وتبد الطاقة، وكنتيجة لذلك يتطور عدد لا بأس به من الأعراض الجليّة. ولكن كيف يمكن أن يكون الأمر غير ذلك عندما يجب عليه، وباستمرار، استخدام كمية كبيرة من الطاقة كي يتجنب أن يكون واعيًا للتناقضات الداخلية، وليتوقف عن كونه ابُتلي بالشكوك العميقة حول هويته، وليمنع شعوره المبهم بنقص الأصالة والنزاهة؟ إن بدائله الوحيدة هي إما الاستمرار في حالة الضيق، أو التوغل إلى الطبقات المكبوتة بشدة من التجربة، والإجراء الأخير يفضي بالضرورة إلى الجزع الشديد.

5) ثمة مقاربة خامسة وهي أن يدع المرء مشاعره وأفكاره تتركز حول أهداف الحياة، مثل التغلب على الجشع، والكراهية، والأوهام، والمخاوف، والتملك، والنرجسية، والتدميرية، والسادية، والمازوشية، والكذب، والافتقار إلى المصداقية، والاستلاب، واللامبالاة، ومجامعة الموتى، والتسلط الذكوري الأبوي أو الخضوع الأنثوي الموازي، وتحقيق الاستقلالية، والقدرة على التفكير النقدي، والقدرة على العطاء والحب.

تتألف هذه المقاربة من محاولة كشف لوجود العقل اللا واعي لأن من هذه السمات "السيئة"، وذلك بحسب الطريقة التي تتم بها عقلنتها، وكيف أنها تُشكل جزءًا من البنية الكاملة لشخصية الفرد، وظروف تطورها. غالبًا ما يكون هذا الإجراء مؤلمًا للغاية، بل ويثير الكثير من القلق. إنه يتطلب أن نصبح مدركين لاستقلاليتنا عندما نقتنع بأننا نحب وأننا مخلصون. وأن ندرك نرجسيتنا عندما نقتنع بأننا سنكون فقط طيبين ونقدم المساعدة للآخرين. وندرك ساديتنا عندما نقتنع بأننا نريد أن نعمل للآخرين فقط ما هو خير لهم. كما نكتشف نزعتنا التدميرية عندما نقتنع بأن مفهومنا للعدالة هو ما يحتاج إلى العقاب. وندرك جبننا عندما نقتنع بأننا متبصرون و"واقعيون". وندرك عنجهيتنا فقط عندما نقتنع بأننا نسلك سلوكًا متواضعًا للغاية. وندرك هدفنا من الحرية عندما نقتنع بأن دافعنا ليس الرغبة بأذية الآخرين. ونصبح مدركين لعدم وفاءنا فقط عندما نقتنع بأننا لم نقصد أن نكون فظين. ونكتشف بأننا غدارون عندا نقتنع بأننا موضوعيون بالتحديد. باختصار، وكما قال غوته: فقط إذا كان بمقدرونا "تخيل أنفسنا على أننا العقل المدبر لأي جريمة يمكن تخيلها" –وأنا أعني ذلك تحديدًا- فهل سيكون باستطاعتنا أن نكون متأكدين بشكل عقلاني وبإنصاف من أننا نُسقط قناعنا، وأننا في طريقنا لأن نصبح مدركين لماهية أنفسنا؟

في هذه اللحظة، وعندما يكتشف المرء البنية النرجسية للصداقة بالنسبة له، أو العنصر السادي لتقديمه العون للآخرين، ربما ستكون صدمة الإنسان عندئذٍ مكثّفة، حتى أنه سيشعر للحظة أو ليوم كامل أنه مخلوق عديم الجدوى، ولا يستحق أن يوصف بكلمة طيبة. لكن إذا لم يسمح المرء لنفسه بأن تنهار أمام هذه الصدمة، ويتابع تحليل نفسه، فلربما سيكتشف أن الصدمة كبيرة –وذلك بسبب التوقعات النرجسية للمرء عن نفسه- إلى الحد الذي سيقاوم معه إجراء المزيد من التحليلات، وأن الجهود السلبية التي اكتشفها المرء ليست، فيه نهاية الأمر، هي فقط القوى المحركة له. وفي الأوقات التي تصبح فيها هذه الحالة حقيقية، فإن الإنسان غالبًا ما سوف يخضع لـ"مقاومته" ولن يستمر بالتحليل.

****

بما أن القدرة على الرؤية، والتي أشرت إليها سابقًا بالحديث عن الإدراك، ليست قابلة للقسمة، فإن التحليل النفسي الذاتي أيضًا يجب أن يصبح معنيًا بإدراك الحقيقة في الأشخاص الآخرين، وكذلك في الحياة الاجتماعية والسياسية. وفي الحقيقة، إن معرفة الآخرين غالبًا ما تسبق معرفة الذات. فالطفل في مرحلة مبكرة من العمر يراقب الراشدين، ويشر بصورة غامضة بالحقيقة الكامنة وراء ما هو ظاهر، ويصبح مدركًا للشخصية الحقيقية وراء الشخصية الظاهرة. ونحن كأشخاص راشدين، غالبًا ما نراقب النوازع اللاواعية في الآخرين قبل أن نتعلم مراقبتها في أنفسنا. لكن علينا أن نُدرك هذه الجوانب المخفية في الآخرين، لأن ما يجري داخل ذواتنا ليس فقط ادخل سيكولوجيتنا، وهكذا نفهمه بدراسة فقط ما يجري داخل  الجدران الأربعة لشخصيتنا، لكنه شئ داخل الشخصية، إذا أمكننا قول ذلك. إنه عابرة عن شبكة من العلاقات بين "نفسي" و"الآخرين"، بإمكاني أن أرى "نفسي" بشكل كامل، فقط بالقدر الذي أرى فيه نفسي من خلال علاقاتي مع الآخرين، وكذلك من خلال علاقاتهم معي.

ليس من الصعب على الفرد أن يرى نفسه دون أوهام، لو أنه لم يكن معرضًّا بصورة دائمة لغسيل دماغه وحرمانه من ملكة التفكير النقدي. إنه يُجبر على التفكير والإحساس بأشياء لم يكن سيفكر أو يحس بها لو لم يكن المجتمع والمحيطين به يقدمها له، ويزين له أساليب تكييفها. وما لم يكن بمقدوره رؤية المعنى الحقيقي وراء الكلام المتكرر، والحقيقة وراء الأوهام، فإن لم يكون قادرًا على إدراك نفسه كما هي، وسُيدرك فقط نفسه كما يُراد له أن يكون.

ما الذي يمكنني معرفته عن نفسي ما دمت لا أعرف أن النفس التي أعرفها بشكل كبير هي عبارة عن منتج اصطناعي، وأن معظم الناس –بما فيهم نفسي- يكذبون دون أن يعرفوا أنهم يفعلون ذلك، وأن "الدفاع" يعني "الحرب" وأن "الواجب" يعني "الخضوع"، وأن "الفضيلة" تعني "الطاعة" وأن "الخطيئة" تعني "التمرد"، وأن الفكرة القائلة بأن الأهل يحبون أولادهم دون تفرقة هي عبارة عن أسطورة، وأن الشهرة نادرًا ما تُبنى على الصفات الإنسانية المثيرة للإعجاب، كما أنها لا تبنى على أساس الإنجازات الحقيقية، وأن التاريخ هو سجل مشوه لأنه يُكتب بأقلام المنتصرين، وأن التواضع البالغ ليس بالضرورة برهانًا على عدم الغرور، وأن الحب هو عكس التوق والطمع، وأن كل شخص يحاول تبرير النوايا السعي إلى السلطة يعني إخفاء الحقيقة والعدالة والحب، وأن المجتمع الصناعي الحالي يرتكز حول مبدأ الأنانية والتملك والاستهلاك، وليس على مبادئ الحب واحترام الحياة، كما يعظ عادة. وإذا لم أكن قادرًا على تحليلي الجانب اللا واعي من المجتمع الذي أعيش فيه، فلا يمكنني معرفة من أنا، لأني لا أعرف أي جزء مني ليس مني.

 

سأقدم في الفقرات التالية ملاحظات عامة حول أساليب التحليل النفسي

إنه لمن الأساسي أن يتم القيام بالتحليل النفسي بشكل دوري، تمامًا مثل التأمل والتركيز، و"ليس عندما يكون لدى المرء المزاج لفعل ذلك". ومن يقول أن ليس لديه الوقت الكافي للقيام بذلك، فهو يقول بكل بساطة إنه لا يجده أمرًا ضروريًّا. حتى إن لم يكن لدى المرء الوقت الكافي، فبإمكانه إيجاد الوقت له. ومن الواضح أن هذا الأمر يتعلق بالأهمية التي يوليها المرء للتحليل النفسي الذاتي، لذلك فمن العبث شرح كيفية وأهمية تخصيص الوقت النفسي الذاتي. وهنا أضيف الملاحظة التالية: ليس من الواجب أن يصبح التحليل النفسي إحدى الشعائر المقدسة التي لا يمكن التقاعس عنها. إذ هنالك، بالتأكيد، أوقات يصبح من المستحيل عمليًّا القيام به. فالتحليل النفسي أمر لا يجب أن يكون إجباريًّا. وبالإجمال، فإن عملية التحليل النفسي يجب ألا تكون جهدًا قسريًّا، يتم تأديته في مزاج عكر على أنه واجب، لكنها في ذات الوقت أمر ضروري للوصول إلى الهدف المحدد. وبمعزل تام عن النتيجة، فإن العملية بحد ذاتها يجب أن تكون تحررية، وبالتالي مبهجة، على الرغم من امتزاجها أحيانًا مع بعض المعاناة، والألم، والقلق وخيبات الأمل.

وبالنسبة لمن ليس عنده شغف بتسلق الجبل، لابد أن يرى الصعود (فعل التسلق) مجرد إرهاق وتعب. ويظن البعض (وهذا ما سمعته أيضًا في تأويلات التحليل النفسي لتسلق الجبال) أن المنحرفين جنسيًّا  فقط يختارون عن طيب خاطر أن يخضعوا لمثل هذا الألم. إن المنحرفين جنسيًّا فقط يختارون عن طيب خاطر أن يخضعوا لمثل هذا الألم. إن متسلق الجبال لا يُنكر أنه يشعر بالإجهاد أو الإرهاق، لكن هذا الشعور هو جزء من البهجة التي يحصل عليها، وهو لا يريد أن يفقد الشعور بأي شكل من الأشكال.

يجب القيام بالتحليل النفسي الذاتي لمدة ثلاثين دقيقة كل صباح على أقل تقدير، ويفضل أن يُجرى في المكان نفسه والزمان نفسه. كما يجب تجنب المؤثرات الخارجية ما أمكن. ويمكن القيام به أثناء المشي، على الرغم من أن الشوارع في المدن الكبرى تسبب الضيق، لكن التحليل النفسي الذاتي، وتحديدًا "تمارين" الإدراك والتنفس، يمكن القيام بها في أي وقت، شريطة ألا يكون المرء مشغولاً أثناء ذلك بأمر آخر. وإننا نمضي أوقاتًا كثيرة في قاعات الانتظار، أو أوقات أخرى "ليس لدنيا فيها ما نفعله"، مثل الوقت الذي نمضيه أثناء سفرنا في القطار أو الطائرة. نستطيع أن نستخدم هذه المناسبات لأحد أشكال الذكاء العقلي، حيث نفعل ما هو أكثر من مجرد قراءة مجلة، أو الثرثرة مع أحد ما، أو الدخول في أحلام اليقظة. وحالما يعتاد المرء على القيام بتمارين التركيز والإدراك والتنفس، فإنه يُصبح أكثر سعادة بالمواقف التي لا يكون لديه ما يفعله أثناءها، إذ أنها تُغني وقته وتُسعده.

كلما تضاءل حضور الفرادنية في الواقع، يزداد تمجيدها بالكلمات. إن العادات الافتراضية للصناعة والتلفاز تبجل فردية الأشخاص الذين يُتلاعب بهم: هنالك يوجد اسم صرّاف البنك على نافذته، والأحرف الأولى على الحقيبة. إضافة إلى ذلك يتم التأكيد على فردية السلع: إن الفروقات المزعومة بين السيارات، السجائر، معاجين الأسنان والتي هي متشابهة بالأساس (في نفس فئة الأسعار)، تخدم هدف خلق الوهم بأن الفرد الرجل أو المرأة يختار الأشياء الشخصية بحرية كاملة. هنالك وعي بسيط بأن الفردية، وفي أحسن أحوالها، عبارة عن فروقات غير ذات أهمية لمواصفات السلع ذاتها، إذ فقد كل من البشر والسلع فرديتهما في مواصفاتهما الأساسية.

وهكذا حظيت الفردانية الواضحة بتقدير عالٍ لكن بصفتها إحدى الممتلكات القيّمة، إذ حتى وإن لم يمتلك الشخص المال، إلا أنه يمتلك شخصيته الفردية. وعلى الرغم من أنه ليس فردًا، إلا أنه يمتلك الكثير من الشخصية الفردية، وهو توّاق وفخور بالحصول عليها. وبما أن هذه الفردانية هي إحدى الفروقات البسيطة، فإنه يضفي على الفروقات الصغيرة التافهة مواصفات هامة وذات مغزى عميق.

لقد روّج علم النفس الحديث لهذا الاهتمام بـ "الفردية"، بل وأرضى هذا الاهتمام. فالناس يفكرون بـ "مشكلاتهم"، ويتحدثون عن أدق التفاصيل من ذكريات طفولتهم، لكن كلامهم في الغالب هو مجرد ثرثرة مفخمة عن أنفسهم وعن الآخرين، حيث يستخدمون مصطلحات وأفكار سيكولوجية بدلاً من الثرثرة قديمة الطراز والأقل ثقافة.

ولدعم هذا الوهم حول الفردية الشخصية من خلال الفروقات التافهة، فإن لعلم النفس الحديث وظيفة أكثر أهمية، وهي تلقين الناس كيف يتوجب عليهم الرد تحت تأثير استخدام محفزات مختلفة، حيث يصبح المحلل النفسي وسيلة هامة للتلاعب بالآخرين وبنفسه على حد سواء. لقد خلقت المدرسة السلوكية علمًا مستقلاً يُعلم فن التلاعب، وكرّست الكثير من مؤسسات الأعمال هذه الظاهرة لصالح حالة التوظيف، إذ يقوم الموظفون المتقدمون إلى الوظيفة بالخضوع إلى اختبارات لتقييم الشخصية. وهنالك العديد من الكتب التي تعلّم الأفراد كيفية تحسين سلوكياتهم، وذلك بهدف التأثير على الآخرين بقيمة شخصيتهم، أو بقيمة السلع التي يبيعونها. ونظرًا لفائدته في هذا المجال، فقد حقق أحد أقسام علم النفس الحديث أهمية كبرى في المجتمع الحديث.

وفي حين أن لهذا القسم من علم النفس فائدة على المستوى الاقتصادي وبصفته أيديولوجية منتجة للوهم، فإنه مؤذٍ للبشر، لأنه ينزع إلى مضاعفة عزلتهم. كما أنه احتيالي عندما يدعي أنه مبنى على أفكار "معرفة الذات" التي قدم لها وعبر عنها التقليد الإنساني، وصولاً إلى فرويد.

 

إيريك فروم

من كتاب "فن الوجود"



[*] السيبرانية: علم ظهر في بداية الأربعينات من القرن العشرين، وهو علم القيادة أو التحكم في الأحياء والآلات ودراسة آليات التواصل في كل منهما. ويُطلق عليه اسم السايبتيمتيك عندما يُستخدم في العلوم الإنسانية.