آلام الوجودية أمام الأبدية

بليز باسكال ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

(من خواطر بليز باسكال)

 

خلود النفس له من الأهمية بالنسبة لنا ما يجعله يؤثر علينا بعمق شديد بحيث أننا لابد أن نكون قد فقدنا عقلنا لو لم نعد نهتم به. كل أفعالنا وأفكارنا سوف تتبع مساراً مختلفًا تمامًا. بحسب ما إذا كان هناك رجاء في البركة المستقبلية أم لا. فهذه هي الطريقة الوحيدة الممكنة للتصرف بحكمة وفطنة. لو كان علينا أن نقرر مسار أفعالنا عند هذه النقطة. إذ أن هذا يجب ان يكون هو اهتمامنا الأساسي.

 

وهكذا فإن اهتمامنا الأساسي وواجبنا الأول لابد أن يكون هو السعي نحو الاستنارة في هذا الأمر. الذي يعتمد عليه مسار مصيرنا بأكمله. هذا هو السبب في أنني أقوم، بالنسبة لغير المقتنعين، بعمل تمييز واضح بين أولئك الذين يجاهدون بكل قوتهم للحصول على تلك الاستنارة، وأولئك الذين يواصلون الحياة دون أن يتعبوا أنفسهم أو حتى يفكروا في هذا الأمر.

يمكنني فقط أن أشعر بالشفقة تجاه أولئك الذين يشعرون بإخلاص بالبؤس بسبب شكوكهم، والذين ينظرون إليه باعتباره أعظم مصائبهم. هؤلاء لا يألون جهدًا للهروب من هذا الموقف، بل يجعلون سعيهم لذلك هو عملهم الأساسي والأكثر جدية. لكني أشعر بشعور مختلف تمامًا تجاه أولئك الذين يعيشون حياتهم دون أن يفكروا في الغاية الأخيرة للحياة، والذين لا يقتنعون بالنور الذي لديهم، بل بدلاً من ذلك يتجاهلونه لكي ينظروا في مكان آخر. هؤلاء لا يعتنقون رأيًا ناتجًا عن تأمل ناضح، بل فقط يقبلون وجهات النظر ببساطة ساذجة. إن تجاهلهم لقضية يجب ان تهمهم بصورة أساسية –لأنها تتعامل مع مصيرهم الأبدي وكل شئ لديهم- يملأني بالضيق أكثر منه بالشفقة. الحقيقة أنه يُذهلني ويروعني. فهو يبدو لي شائنًا ومهينًا. إنني لا أقول هذا بدافع المشاعر التقوية. على العكس من ذلك، إنني أعني أن البشر يجب أن يشعروا هكذا بسبب المبادئ الأساسية للمصلحة البشرية وتقدير الذات. فهو لا يستدعي شيئًا أكثر مما هو واضح لمن هم أقلنا استنارة.

إننا لا نحتاج أن نكون ذوي مبادئ سامية لكي نُدرك أنه لا يوجد رضا أو إشباع حقيقي وثابت سنحصل عليه في هذا العالم. فكل مسراتنا ومتعنا هي مجرد زيف، بينما بلاؤها ومصائبنا غير محدودة. الموت يطاردنا في كل لحظة. على مدى فقط سنوات قليلة سوف نأتي حتمًا في مواجهة مع حقيقة الأبدية، التي ستكون بالنسبة لأولئك الذين تجاهلوها لعنة وهلاكًا أبديًّا دون أي أمل في السعادة.

لا يوجد شئ أكثر واقعية من ذلك، ولا أكثر رعبًا منه. ربما نسعى للتظاهر بالشجاعة قدر ما نستطيع. دع الناس يفكرون كما يريدون، لكن الخير الوحيد في هذه الحياة يكمن في الرجاء في حياة أخرى. إننا نشعر بالسعادة فقط بالقدر الذي نتوقع به هذا، لأنه لن يكون هناك بلايا لأولئك الذين يتيقنون بالكامل من الحياة الأبدية. لكن لن تكون هناك سعادة لأولئك الذين ليست لديهم معرفة بها.

من الواضح أنه بلاء عظيم أن نكون في مثل هذه الحالة من الشك. لكنه على الأقل واجب لا يمكن الاستغناء عنه أن نبحث ونسعى عندما نكون في مثل هذه الحالة. فالإنسان الذي يشك ولكنه لا يسعى هو أكثر الناس بؤسًا وأكثرهم خطأ. فإذا شعر، بالإضافة لذلك، بأنه مُعتد بما يُصرِّح به علنًا، بل حتى يراه مصدرًا لرضاه عن نفسه وغروره الذي يعترف به بشكل صارخ، فإني إذًا لا أستطيع أن أجد تعبيرات أصف بها مثل هذا المخلوق.

ما الذي يمكن أن يُثير مثل هذه المشاعر؟ ما المنطق في الفرح عندما لا نستطيع أن نتطلع إلى أي شئ سوف الشقاء التام؟ وما المنطق الزائف بكوننا منغمسون في مثل هذه الظلمة التي لا يمكن اخترقها؟ كيف يمكن لمجادلات مثل هذه حتى أن تتم مع أي إنسان عاقل؟

"إنني لا أعرف من الذي وضعني في هذا العالم، ولا ما هو هذا العالم، ولا ما هو هويتي أنا نفسي. إنني أجهل بعمق كل شئ. إنني لا أعرف ما هو جسدي، ولا ما هي حواسي، ولا ما هية نفسي، ولا العقل نفسه الذي يفكر فيما أقوله، والذي يتأمل في كل شئ وفي نفسه كذلك، وهو لا يعرف نفسه أفضل مما يعرف أي شئ آخر. إنني أرى فقط الفضاءات المرعبة للكون التي تسجنني، وأجد نفسي مغروسًا في ركن صغير من هذا الفضاء الشاسع دون أن أعرف لماذا تم وضعي هنا وليس هناك. كما لا أعرف لماذا حُدِّد لي هذا المدى القصير من الحياة عند هذه النقطة بدلاً من أخرى في كل أبدية الزمن التي سبقتني، وكل التي ستأتي بعدي. إنني أرى فقط لا نهائيات infinities من كل النواحي، تغلفني مثل ذرًّة أو مثل ظل للحظة عابرة. كل ما أعرفه هو أنني سريعًا سوف أموت، لكن أكثر ما أجهله هو هذا الموت نفسه الذي لا يوجد مهرب منه.

تمامًا كما أني لا أعرف من أين أتيت، لا أعرف أيضًا إلى أين سأذهب. كل ما أعرفه هو أنني عندما أعادر هذا العالم فإني سأهوى إلى الأبد في عالم النسيان، أو في يدي إله غاضب، دون أن أعرف أيهما سيكون هو نصيبي إلى الأبد. هذه هي حالتي الذهنية، مليئة بالضعف وعدم اليقينية. النتيجة الوحيدة التي يمكن أن أستخلصها من كل هذا هي أنني لابد أن أعبر أيامي دون أن أفكر في محاولة اكتشاف ما سوف يحدث لي. ربما أجد نوعًا من التبصر في شكوكي الخاصة، ولكني لا أريد أن اكون مضطربًا. بل أني لا أريد حتى أن أبذل جهدًا كبيرًا في السعي لذلك. لكني بدلاً من ذلك سأمضي دون خوف من العواقب وسأسمح لنفسي أن يتم حملي بعجز إلى موتي، غير متيقن من حالتي المستقبلية طوال الأبدية."

(هنا يُسجل لنا باسكال، وبأمانة وشفافية متناهيين، صراع الإنسان الشقي والتعيس في بحثه عن ذاته... عن سبب وجوده؛ سبب وجود الكون الفسيح، وعن من هو الله والأبدية – المُحرر).

 

تخيل عدداً من المساجين المصطفين في طابور الموت، البعض منهم يُقتلون كل يوم على مرأى من الآخرين. أما الباقون فيرون حالتهم هي حالة رفاقهم، وينظرون إلى بعضهم البعض بحزن ويأس، منتظرين دورهم. هذه هي صورة للحالة البشرية.

 

من كتاب "باسكال"