الموت أو الحياة

بول تورنييه ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

لقد حان الوقت، لنلتقط تلك الأفكار التي جمعناها من بستان الكتاب المقدس بأسفاره المختلفة. فقد سبق وقلنا إن الحياة، والصحة والصلاح ثمار العلاقة مع الله ورمز لها.

 أما الموت، والمرض والخطية فهي ثمار الانفصال عن الله. والكتاب المقدس يمتلئ بالأمثلة عن التضاد بين هاتين الحالتين. وهناك العديد من النصوص الرائعة تصور لنا هذا الأمر: "انظر. قد جعلت اليوم قدامك الحياة والخير، والموت والشر، أُشهد عليكم اليوم السماء والأرض. قد جعلت قدامك الحياة والموت. البركة واللعنة. فاختر الحياة لكي تحيا أنت ونسلك – تث 30: 15، 19".

إن الكتاب يضع الإنسان أمام الاختيار. ذلك أن الإنسان يعيش في عالم تدور فيه رحى معركة بين الله والشيطان، بين الحياة والموت، وعليه أن يختار. ولحظة تلو الأخرى، أنت في موقف الاختيار، وفي كل فكرة، وكل شعور، وكل عمل، أنت تواجه الاختيار بين متنافسين. رأيت أفرادًا وعائلات ملتزمين جدًا تجاه التقوى بل ومتزمتين، لكنهم يذكروننا بالموت أكثر من الحياة، عائلات جافة محنطة، تفتقر إلى التلقائية والعفوية والمرح، منهم عائلات بروتستانتية: يقرأون الكتاب المقدس كل صباح ومساء، ويصلون قبل الأكل وبعده، ويذهبون إلى الكنيسة كل أحد، ومنهم عائلات من الروم الكاثوليك: يحضرون القداس كل يوم، ويلتزمون بطقوس الكنيسة، يحفظون أيام الصوم – يتلون كل الصلوات، وعائلات من طوائف أكثر تزمتًا، يعتقدون أنهم يطيعون الرب، فلا يرقصون، ولا يقرأون إلا الكتب الدينية، لا يشاهدون الأفلام، أو مباريات الرياضة، لا يرتدون الثياب الفاخرة، ومع ذلك، لم يجعلهم كل هذا مثمرين في حياتهم، وما تقواهم إلا أحمالاً ثقيلة وضعوها على كاهلهم، أصبحوا أسرى هذا النظام الذي صار جزءًا لا يتجزأ منهم ولا مفر لهم للفكاك منه. 

لقد فقدوا حريتهم وحرية أولادهم، إذ فرضوا على أولادهم ما يتبعونه من نظم قاسية أيضًا، ولم يتركوا حرية الاختيار لهم. بل فرض عليهم المحيطون بهم هذا النمط من الحياة الذي يصيبهم بالملل والكرب. وخلاصة القول، تعتقد هذه العائلات أن هذه الممارسات القاسية تضمن لهم الخلاص. ومع ذلك، لا يدركون تلك الخطايا الماكرة التي تختبئ في أعماق نفوسهم مثل: الغيرة، المرارة، حب السيطرة، القسوة، إدانة الآخرين ممن لا يمارسون نفس ممارساتهم وطقوسهم.

وبالتأكيد قام بعض من زملائي بعلاج الكثيرين من مرضى العصاب، ممن أصابهم المرض من جراء الكبت الذي يعيشون فيه، مما سلبهم حرية الإرادة وفقدان السيطرة على الذات. وعلى سبيل المثال، أتذكر حالة من حالات "سيطرة الأم" على فتاة تبلغ من العمر 25 عامًا. كانت أمها تستخدم آيات الكتاب المقدس كسوط تجلد به ابنتها، فصارت الفتاة لا تعرف أن تحيا حياة حقيقية، إذ خنقت الأم روح الحياة في ابنتها. كانت تستخدم آيات مثل: "أيها الأولاد، أطيعوا والديكم في الرب لأن هذا حقٌ – أف 6: 1". ويمكنني أن أسرد المزيد من تلك الآيات. وحقيقة الأمر، أن قضية معنى الحياة والموت، والتي قد تبدو أنها قضية لاهوتية لبعض من القراء هي في حقيقة الأمر قضية طبية: والسؤال هو: هل الدين يُحسن من حياة الإنسان أم يهدمها؟

يروي لنا الإنجيل كيف كان يسوع يُصارع الفريسين الذين كانوا يحفظون وصايا الله بصرامة شديدة. وقد سماهم "قبورًا مبيضةً – مت 23: 27". كانوا يعتقدون أنهم اختاروا الحياة وفرضوا على نفسهم الالتزام بكل تفاصيل الناموس الدقيقة. لكنهمصاروا عبيدًا لحرف الناموس لا الروح، ووقعوا تحت أغلال التقوى الشكلية. صارت لهم صورة التقوى لكنهم منكرون لقوتها كما قال الكتاب. هم يرمزون للموت كما أن يسوع يرمز للحياة، ومن هنا كانوا يقاومونه بلا هوداة: "الروح هي الذي يُحيي – يو 6: 63". كما كان القديس بولس، وهو فريسي بالأساس (في 3: 5)، يُحب أن يُعلن أنه صار حرًا في المسيح، وهو من قال: "لأن الحرف يقتل ولكن الروح يُحيي – 2 كو 3: 6".

وإن لكل هذا أهميته القصوى للعلاج النفسي. ذلك أن مرضى العصاب يرزحون تحت ثقل جهودهم الذاتية التي يبذلونها لكي يحيوا، ومشاعرهم تجاه المطالب العظيمة التي تثقل كاهلهم، والتي تقودهم إلى اليأس. هذا ما قاله القديس بولس. وتلك مأساة مرضى العصاب، ذلك أن المجهودات التي نقوم بها لنفوز بالحياة، تقذف بنا بعيدًا عن الحياة. والرغبة الشديدة في الفوز بالحياة التي تستحوذ على مريض العصاب، الرغبة في العدل، المودة، الكمال، تحرمهم من تلك الأشياء، ومن الشجاعة اللازمة لمواجهة نوباته العصبية. وهي تبشره بأخلاقيات نسبية لن تجلب له إلا بعض الراحة الوقتية، وهذه ليست حلاً حقيقيًا.

وإني لا أدعي أنه لا يوجد خلاف ما بين الصراع مع مرض العصاب والصراع الأخلاقي الذي تحدث عنه بولس الرسول، وهذا يسفر لنا العلاقة بين الخطية والمرض. فالأول أمر مرضي يحدث نتيجة لوقوع المريض ضحية ظروف معينة، أما الأخير فهو جزء من الطبيعة البشرية ويصيب الناس جميعًا. الأول يعود للتوجيه الخاطئ اللاواعي للدوافع التلقائية. بينما الثانية، فهي نتيجة للصراع الواعي ضد الرغبات الطبيعية. ولكن الاثنين يتشابهان في حقيقة أن الحل يكمن في التحرر. فوعي الشخص الحساس يخبره أن هناك ناموسًا أخلاقيًا مطلقًا. وفي نفس الوقت، علينا أن نقبل حقيقة أننا جميعًا قد عصيناه، تلك هي المعضلة التي علينا أن نجد مخرجًا منها.

وليس هناك مخرج إلا اللقاء مع يسوع المسيح. وتبقى المعضلة القديمة، إن الحياة هي العلاقة مع الله، والموت يكمن في الانفصال عنه. أما منظومة الناموس اللا شخصية القاسية، فهي تطلب عبثًا أن نحافظ على هذه العلاقة مع الله من خلال الطاعة الحذرة المستحيلة، أما العهد الجديد فيستبدل الناموس بشخص حي: يسوع المسيح. هذا الذي فيه يأتي الله إلينا وذلك فور أن نعترف بعدم قدرتنا أن نفعل ذلك.

 

بول تورنييه

من كتاب: "يوميات طبيب"