من اعترافات القديس أغسطينوس - "الترجمة العربية" (3)

القديس أغسطينوس ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

الى هذا التكريس الكامل تقتُ يوم كنت مقيداً بقيود إرادتي، لا بسلاسل حديدية، متينة: لقد استأسر العدو إرادتي وجعلها سلسلة وقيَّدني بها لأن الإرادة الشريرة مصدر الشهوة الخبيثة؛ وهذه حين يستسلم إليها الإنسان تصبح فيه عادة. وهذه إذا لم يقاومها تصبح ضرورة. لقد كنت عبداً ذليلاً، أسيراً، مقيداً بتلك السلاسل المتشابكة الحلقات. ولما كانت إرادتي الناشئة التي حملتني إلى خدمتك المجانية والتمتع بك يا الله – يا من فيك وحدك وجدت سعادة أكيدة - عاجزة عن التغلب علي إرادتي الأولى، فقد أصبحتُ بين إرادتين: قديمة وحديثة، جسدية وروحية تتطاحنان وتتجاذبان.

وأدركت بالاختبار الشخصي معنى كلام الرسول: الجسد يناصب الروح العداء والروح الجسد. وهاتان الارادتان هما لي ولكنني كنت أميل إلى إرادة الشر فيَّ اكثر منه إلى إرادة الخير وقطعت كل علاقة بما فيَّ من شر وبرغم ذلك فقد بقيت أتأثر به؛ وبفضل هذا الموقف تغلبَّت العادة عليَّ ووصلتُ بملء حريتي إلى ما أنا عليه ولم أَعد حراً بتركه. فما هي الطريقة القانونية للاعتراض على العقاب الذي يتبع حتماً الخطيئة؟ لقد ضيَعتُ العذر الذي قدمته حين آثرتُ العالمَ على خدمتك يومَ لم اكن أرى الحقيقة. أمَّا الآن فقد أصبحتُ أراها بيد أني لا أزال مقيداً بالأرض ولهذا رفضت أن انخرط في خدمتك. وكان خوفي من التحرر من قيودي كخوفي منها.
إذ ذاك كنت رازحاً تحت وطأة العالم، راضياً به كمن يحلمُ في نومه. وان حاولتُ أن أفكر فيك، صرت كمن يرغب في النهوض من نومه، حتى إذا ما استيقظ عاد واستغرق فيه. ما من أحد يرغب في النوم الدائم؛ وما من أحد لا يقر بأفضلية السهر على النوم ولكن حين يستولي النعاس علي الأعضاء، يتأخر الإنسان عن طرده حتى إذا ما دقت ساعة النهوض يسترسل فيه من جديد بلذة. هكذا كنتُ: مع علمي أن تسليمَ نفسي لرحمتك خيُر لي من السير في ركاب شهواتي، فقد تركتها تحت رحمة الشهوات، أسيراً لها وعبداً؛ وسمعتك تناديني قائلاً: قم أيها النائم من بين الموتى والمسيح يضيءُ لك. ولم أجد ما أجيب به على قولك الحق الذي انتصر عليّ؛ اجل لم أجد سوى جواب رجلٍ استولي عليه الكرى فراح يتثاءب ويقول: الآن، اجل، الآن! رويدك، رويدك! بيد أَن هذا "الآن" لم يحن بعدُ؛ وطالت جداً هذه الهنيهة من الزمن؛ وعبثاً بحثت عن غبطة للإنسان الباطني في شريعتك طال ما أن سنَّة (شريعة) أخري تقيم في أعضائي وتضاد سنَّة ضميري وتأسرني تحت سنَّة الخطيئة التي في أعضائي. وما سنَة الخطيئة هذه سوى صولة العادة الشريرة التي تقبض على النفس وتأسرها. ولئن كرهت النفسُ هذا الأمر فقد قضى عليها ذنبُها أن تقع فيه عن هوى واختيار. أوَّاه ما أشقاني؟ ومن ينجَني من جسد الموت هذا سوى نعمتك بالمسيح يسوع، ربنا؟

الاعترافات
ص 152 - 154