التعلق الآمن والتنظيم الذاتي للانفعالات

د. بيسل فان دير كوك ٢٤ أكتوبر ٢٠٢٢

 

  •  
  •  
  •  
  •  

 "ترسم أنماط التعلق الباكرة خرائطنا الداخلية

التي تحدد معالم علاقاتنا طيلة حياتنا."

 

القاعدة الآمنة

عند دخولنا هذا العالم، نصرخ معلنين وجودنا؛ فيتفاعل معنا شخص ما على الفور، فيُحمّمنا، ويُقمّطنا[1]، ويملأ بطننا، والأفضل من ذلك كله، أن أمنا قد تضعنا على بطنها أو ثديها لنحصل على تلامس جسدي لذيذ. نحن مخلوقات اجتماعية إلى حد عميق؛ تتمثل حياتنا في العثور على مكاننا داخل مجتمع البشر، وإنني لأحب تعبير الطبيب النفسي العظيم بيير جانيه Pierre  Jane عن ذلك بقوله: "كل حياة هي عبارة عن منحوتة إبداعية، مصنوعة بكل الوسائل المتاحة".

ثم أثناء ترعرعنا، نتعلم تدريجيًّا رعاية أنفسنا، جسديًّا وعاطفيًّا، لكننا نتلقى دروسنا الأولى في رعاية الذات من الطريقة التي يرعانا الآخرون بها؛ إذ يعتمد إتقان مهارة التنظيم الذاتي اعتمادًا كبيرًا على مدى انسجام تفاعلاتنا الباكرة مع مقدمي الرعاية لنا، وإن الأطفال الذين يمثل آباؤهم مصدرًا مضمونًا للراحة والقوة يمتلكون ميزة دائمة طيلة حياتهم؛ نوعًا من الوسادات الهوائية يلطّف عنهم أسوأ ما يمكن أن يصيبهم القدر به.

لقد أدرك جون بولبي John Bowlby أن الأطفال مشغوفون بالوجوه والأصوات وأنهم فائقو الحساسية للتعبيرات الوجهية، ووضعية الجسد، ونبرة الصوت، والتغيرات الفسيولوجية، ووتيرة الحركة، والفعل الاستهلالي؛ وارتأى أن هذه القدرة الفطرية، بكونها نتاجًا للتطور، فهي ضرورية لبقاء هذه المخلوقات العاجزة؛ كما رأى أن الأطفال مبرمجون لاختيارٍ راشدٍ معين واحد (أو بضعة راشدين على الأكثر) لينمو مع نظام التواصل الطبيعي الفطري الخاص بهم؛ وهذا يؤدي إلى إنشاء رابطة تعلق أولية. وكلما كان الراشد أكثر استجابية للطفل، كان الارتباط أشد عمقًا وزادت احتمالية أن يُنشئ الطفل طرقًا صحية للاستجابة لمن حوله من الأشخاص.

كان بولبي يزور حديقة ريجنت بارك في لندن أحيانًا كثيرة، حيث يُجري ملاحظات منهجية للتفاعلات الحادثة بين الأطفال وأمهاتهم؛ فوجد أنه حينما كانت الأمهات يجلسن في هدوء على مقاعد الحديقة، للحياكة أو قراءة الصحف، كان الأطفال يتجولون للاستكشاف، ويلتفتون خلفهم من حينلآخر في قلق ليتأكدوا من أن "ماما" مازالت تراقبهم؛ ولكن حين كانت تأتي إحدى الجارات إلى الأم وتستحوذ على اهتمامها بأحدث الإشاعات، حينئذ يهرول الطفل عائدًا ويبقى على مقربة، ليحرص على أنه مازال يحظى باهتمام أمه. فحينما يلاحظ الرضّع والأطفال الصغار أن أمهاتهم غير متصلات معهم اتصالاً تامًا، ينتابهم التوتر؛ وإذا اختفت أمهم عن الأنظار، يبدؤون في الصراخ ولا يقبلون التهدئة، ولكن بمجرد عودة أمهم، يهدؤون ويستكملون لعبهم.

لقد اعتبر بولبي أن التعلق هو القاعدة الآمنة التي ينطلق منها الطفل إلى العالم، وعلى مدى العقود الخمسة اللاحقة أثبتت الأبحاث بقوة أن امتلاك ملاذ آمن يعزز التعويل على الذات ويغرس حس التعاطف[2] وتقديم العون للآخرين المكتربين. وهذا لأن الأطفال يتعلمون من حميمية الأخذ والعطاء الخاصة برابطة التعلق أن الآخرين لديهم مشاعر وأفكار متشابهة مع ما لديهم ومختلفة عنها أيضًا؛ وبعبارة أخرى، يصبحون "متزامنين" مع بيئتهم ومع من حولهم من الأشخاص وينمّون مهارات الوعي الذاتي، والتشاعر، والتحكم في الاندفاع، والتحفيز الذاتي التي تمكنهم من أن يصيروا أعضاء مساهمين في الثقافة الاجتماعية الأوسع؛ ولقد كان الأطفال الموجودون في "عيادة الأطفال" مفتقرين إلى هذه الصفات إلى حد مؤلم.

 

رقصة التناغم:

يصير الأطفال متعلقين بأي شخص يتقلد منصب مقدم الرعاية الأساسي، لكن طبيعة هذا التعلق -سواء أكان آمنًا أم غير آمن- تؤدي إلى حدوث فروق كبيرة على مدار حياة الطفل. وينشأ التعلق الآمن حينما يكون تقديم الرعاية مشتملاً على تناغم انفعالي، ويبدأ هذا التناغم عند المستويات الجسدية الدقيقة في التفاعل بين الأطفال ومقدمي الرعاية، فيمنح الأطفال شعورًا بأن احتياجاتهم يتم تلبيتها وبأنهم مفهومون. يقول باحث التعلق كولوين تريفارثين Colwyn Tervarthen المقيم في مدينة إدنبرة: "يقوم الدماغ بتنسيق حركات الجسم الإيقاعية ويوجهها لتعمل في تعاطف مع أدمغة الآخرين. كما أن الرضّع يسمعون الإيقاع ويتعلمونه من حديث أمهاتهم، حتى قبل الولادة".

في الفصل الرابع ناقشت اكتشاف العصبونات المرآتية، وهي الرابط بين دماغنا وأدمغة الآخرين الذي يمنحنا قدرتنا على التشاعر، وتبدأ هذه الخلايا في العمل إثر ولادة الطفل مباشرة، فحينما قام الباحث أندرو ميلتزوف Andrew Meltzoff من جامعة أوريغون بضم شفتيه أو إخراج لسانه أمام أطفال يبلغون من العمر ست ساعات، قاموا فورًا بعكس أفعاله عكسًا مرآتيًّا (من الجدير بالذكر أن الولدان لا يستطيعون تركيز بصرهم إلى على الأشياء التي تقع في نطاق ثماني إلى اثنتي عشرة بوصة – بما يكفي فقط لرؤية من يحملهم). إن المحاكاة تعد أهم مهاراتنا الاجتماعية الرئيسية، إذ تضمن أن نلتقط تلقائيًّا سلوك آبائنا، ومعلمينا، وأقراننا ونعكسها مرآتيًّا.

وإن معظم الآباء والأمهات يتواصلون مع أطفالهم بعفوية وتلقائية شديدة لدرجة أنهم بالكاد يدركون كيف يزدهر التناغم، لكنني تلقيت دعوة من صديق، إد ترونيك باحث بمجال التعلق، منحتني فرصة ملاحظة هذه العملية عن كثب: عبر مرآة أحادية الرؤية بمختبر النماء البشري بهارفارد، شاهدت أمًا تلعب مع ابنها البالغ من العمر شهرين، والذي كان مساندًا في مقعد رُضعٍ مواجهًا لها.

كانا يصدران هديلاً لبعضهما بعضًا ويستمتعان بوقتهما، إلى أن انحنت الأم لتلاعب الطفل بأنفها، وفي حماسة منه شد شعرها بغتة وبقوة، فصرخت من الألم، دافعة يده بعيدًا متقبضة الوجه غاضبة؛ فترك الطفل شعرها على الفور، وتراجعًا جسديًّا عن بعضهما؛ فبالنسبة لكليهما، لقد أصبح مصدر السرور مصدرًا للقلق. والخوف بادٍ عليه، رفع الطفل يديه إلى وجهه ليحجب عن نفسه مشهد أمه الغاضبة، حينئذ أدركت الأم -بدورها- أن طفلها متوعك، فأعادت توجيه تركيزها إليه، وأصدرت أصواتًا مهدئة محاولةً تلطيف الجو. ظلّ الرضيع مغطيًا عينيه، ولكن سرعان ما عاوده توقه للاتصال، فبدأ في اختلاس النظر خارجًا ليرى ما إذا كان الوضع آمنًا، ليجد والدته مادة يديها نحوه والاهتمام بادٍ على وجهها؛ وحينما بدأت في دغدغة بطنه، أنزل ذراعيه ودخل في قهقهة سعيدة، وتمت استعادة الانسجام. لقد تناغم الرضيع والأم مرة أخرى، واستغرق هذا التسلسل الكامل المكون من البهجة، والتمزق، والإصلاح، والسرور الجديد وقتًا أقل من اثنتي عشرة ثانية.

لقد أظهر ترونيك وغيره من الباحثين آنذاك أنه حينما يكون الرضيع ومقدم الرعاية متزامنين على المستوى الانفعالي، يكونان كذلك متزامنين جسديًّا. إن الأطفال لا يستطيعون تنظيم حالاتهم الانفعالية، ناهيك عن التغيرات في معدل النبض ومستويات الهرمونات، ونشاط الجهاز العصبي المصاحب للانفعالات؛ لكن حينما يكون الطفل متزامنًا مع مقدم الرعاية، فإن حسه بالسرور والاتصال ينعكس في انتظام دقات قلبه وتنفسه وانخفاض مستوى الهرمونات الكربية؛ يكون جسده هادئًا؛ وكذلك انفعالاته. وفي اللحظة التي تختل فيها هذه الموسيقى -كما يحدث أحيانًا كثيرة في سياق اليوم العادي-، تتغير كذلك جميع هذه العوامل الفسيولوجية؛ وهدوء الفسيولوجيا هو ما يدل على أن التوازن قد تمت استعادته.

رغم أن الأبوين يقومان على تهدئة الولدان، إلا أنهما سرعان ما يشرعان في تعليم أطفالهما إطاقة مستويات أعلى من التيقظ، وهي وظيفة غالبًا ما يُعهد بها إلى الأب (لقد سمعت ذات مرة الأخصائي النفسي جون جوتمان John Gottman يقول: "الأم لليونة، والأب للخشونة"). إن تعلم كيفية إدارة التيقظ لهي مهارة حياتية رئيسية، ويجب على الوالدين القيام بها نيابة عن الأطفال قبل تمكن الأطفال من القيام بها لأنفسهم؛ فإذا أحس بقضم في بطنه يدفعه للبكاء، يجب أن نوصل إليه الثدي أو زجاجة الحليب؛ وإذا انتابه الخوف، يجب أن يحمله أحدهم ويهدهده حتى يهدأ؛ وإذا ثارت أمعاؤه، يجب أن يأتي أحدهم لينظفه ويجففه، إذ أن ربط تلك الأحاسيس الشديدة بالأمان، والراحة، والإتقان هو أساس التنظيم الذاتي، والتهدئة الذاتية، ورعاية الذات، وهي فكرة رئيسية أعرّج عليها في شتى أنحاء هذا الكتاب.

إن التعلق الآمن المصحوب بتنمية الكفاءة يشيّد مركز السيطرة الداخلي، وهو ما يعتبر العامل الرئيسي في التكيف الصحي طوال الحياة؛ فالأطفال ذوو التعلق الآمن يتعلمون ما الذي يشعرهم بالارتياح؛ ويكتشفون ما الذي يشعرهم (والآخرين) بالضيق، ويكتسبون حس الوكالة: أن أفعالهم يمكن أن تغيّر ما يشعرون به وكيفية استجابة الآخرين أيضًا؛ كما يتعلمون التفريق بين المواقف التي يستطيعون فيها السيطرة والمواقف التي يحتاجون فيها إلى المساعدة؛ ويتعلمون أن باستطاعتهم الاضطلاع بدورٍ فاعلٍ عند مواجهة المواقف العسيرة. وعلى النقيض من ذلك، فالأطفال الذين لديهم تاريخ من الانتهاك والإهمال يتعلمون أن شعورهم بالرعب، وتوسلهم، وبكاءهم، كلها أمور "عديمة المعنى" بالنسبة لمقدمي الرعاية؛ إذ لا شيء مما يمكنهم فعله أو قوله يؤدي إلى إيقاف الضرب أو لفت الانتباه وجلب المساعدة. ونتيجة لذلك، يُجري تشريطهم على الاستسلام عند مواجهة التحديات لاحقًا في حياتهم.

 

أن تصير حقيقيًّا/واقعيًّا

حياتنا رئيسية، ويجب على الوالدين القيام بها نيابة عن الأطفال قبل تمكّن الأطفال من القيام بها لأنفسهم؛ فإذا أحس بقضم في بطنه يدفعه للبكاء، يجب أن نوصل إليه الثدي أو زجاجة الحليب؛ وإذا انتابه الخوف، يجب أن يحمله أحدهم ويهدهده حتى يهدأ؛ وإذا ثارت أمعاؤه، يجب أن يأتي أحدهم لينظفه ويجففه؛ إذ أن ربط تلك الأحاسيس الشديدة بالأمان، والراحة، والإتقان هو أساس التنظيم الذاتي، والتهدئة الذاتية، ورعاية الذات، وهي فكرة رئيسية أعرّج عليها في شتى أنحاء هذا الكتاب.

إن التعلق الآمن المصحوب بتنمية الكفاءة يشيّد مركز السيطرة الداخلي، وهو ما يعتبر العامل الرئيسي في التكيف الصحي طوال الحياة؛ فالأطفال ذوو التعلق الآمن يتعلمون ما الذي يشعرهم بالارتياح؛ ويكتشفون ما الذي يشعرهم (والآخرين) بالضيق، ويكتسبون حس الوكالة: أن أفعالهم يمكن أن تغيّر ما يشعرون به وكيفية استجابة الآخرين أيضًا؛ كما يتعلمون التفريق بين المواقف التي يستطيعون فيها السيطرة والمواقف التي يحتاجون فيها إلى المساعدة؛ ويتعلمون أن باستطاعتهم الاضطلاع بدورٍ فاعلٍ عند مواجهة المواقف العسيرة. وعلى النقيض من ذلك، فالأطفال الذين لديهم تاريخ من الانتهاك والإهمال يتعلمون أن شعورهم بالرعب، وتوسلهم، وبكاءهم، كلها أمور "عديمة المعنى" بالنسبة لمقدمي الرعاية؛ إذ لا شيء مما يمكنهم فعله أو قوله يؤدي إلى إيقاف الضرب أو لفت الانتباه وجلب المساعدة. ونتيجة لذلك، يُجرَى تشريطهم[3] على الاستسلام عند مواجهة التحديات لاحقًا في حياتهم.

 

أن تصير حقيقيًّا/واقعيًّا

يُعتبر طبيب الأطفال والمحلل النفسي دونالد وينيكوت، المعاصر لبولبي، هو الأب الروحي لدراسات التناغم الحديثة؛ ولقد بدأت ملاحظاته الدقيقة عن الأمهات والأطفال بالانتباه للطريقة التي تحمل بها الأمهات أطفالهن، وقد ارتأى أن هذه التفاعلات الجسدية تضع أساس حس الطفل بذاته، كما تمده -إلى جانب ذلك- بحس الهوية الذي يدوم طيلة الحياة؛ وأن الكيفية التي تحمل بها الأم طفلها تشكّل أساس "القدرة على الشعور بالجسد باعتباره المكان الذي تعيش فيه النفس"؛ وأن إحساسنا الحشوي الحركي بالكيفية التي تُلمس بها أجسادنا، هذا الإحساس يرسي الأساس لما نختبره باعتباره "واقعيًّا".

اعتقد وينيكوت أن الغالبية العظمى من الأمهات يبلين بلاءً حسنًا في تناغمهن مع أطفالهن؛ إذ لا يتطلب الأمر موهبة استثنائية لتكون ما أسماه "أمًّا جيدة بما يكفي"؛ ولكن الأمور يمكن أن تسوء إلى حد خطير حين تعجز الأمهات عن التناغم مع الواقع الجسدي لطفلهن؛ فإذا لم تستطع الأم تلبية اندفاعات طفلها واحتياجاته، "يتعلم الطفل أن يصير هو مفهوم الأم عن ماهية الطفل". وإن اضطرار الطفل إلى استبعاد أحاسيسه الداخلية، والسعي للتوافق مع احتياجات مقدم الرعاية، معناه أن الطفل يحس بأن "هناك خطأ ما" في كينونته؛ والأطفال المفتقرون إلى التناغم الجسدي هم عرضة لإطفاء التغذية الراجعة المباشرة من أجسادهم، التي تُعتبر مقرّ اللذة، والغاية، والوجهة.

في السنوات التي تلت طرح بولبي ووينيكوت لأفكارهما، أظهرت أبحاث التعلق حول العالم أن الغالبية العظمى من الأطفال ذوو تعلق آمن؛ وحين يكبر هؤلاء الأطفال، فإن ماضيهم الذي كان تقديم الرعاية فيه متسمًا بالموثوقية والاستجابية سيعمل على الوقاية من الخوف والقلق؛ وإذا لم يتعرضوا لحدث حياتي طاحن -صدمة- يحطّم التنظيم الذاتي، فستدوم لديهم حالة أساسية من الأمن الانفعالي طوال حياتهم. كما يشكّل التعلق الآمن نموذجًا لعلاقات الأطفال؛ حيث يلتقطون ما يشعر به الآخرون ويتعلمون في مرحلة باكرة التفريق بين الهزل والجد، وينمّون قدرة جيدة على استشفاف المواقف الزائفة أو الأشخاص الخطرين. وعادةً ما يصبر الأطفال ذوو التعلق الآمن زملاء لعبٍ محبوبين ويحظون بالكثير من خبرات توكيد الذات مع اقرانهم؛ ونظرًا لتعلمهم التناغم مع الآخرين، فإنهم يميلون إلى ملاحظة التغيرات الطفيفة في الأصوات والوجوه وتعديل سلوكهم وفقًا لذلك. وبهذا يتعلمون العيش ضمن فهم مشترك للعالم وغالبًا ما يصبحون أعضاء مقدَّرين في المجتمع.

ومع ذلك، فيمكن أن ينعكس هذا التصاعد الحلزوني جراء الانتهاك أو الإهمال؛ فرغم أن أطفال الإساءات غالبًا ما يصيرون شديدي الحساسية للتغيرات في الأصوات والوجوه، إلا أنهم يميلون للاستجابة لها باعتبارها تهديدات، وليس تلميحات تحثهم على البقاء متزامنين. ولقد قام د. سيث بولاك Seth Pollak من جامعة ويسكونسن بعرض سلسلة من الوجوه على مجموعة من الأطفال الطبيعيين في سن الثامنة ثم قارن استجاباتهم مع تلك الخاصة بمجموعة أطفال يماثلونهم في العمر؛ وعند نظرهم إلى طيف التعبيرات هذا، المتدرج من الغضب إلى الحزن، كان أطفال الإساءات مفرطي اليقظة تجاه أدق قسمات الغضب.

 

 

هذا هو أحد الأسباب التي تجعل الأطفال الذين تعرضوا لاعتداءاتٍ يتحولون إلى الوضع الدفاعي أو الخائف بسهولة شديدة؛ ولتتخيل كيف سيكون حالك حين تحاول اجتياز رواق المدرسة وسط بحر من الوجوه، وأنت تسعى لمعرفة أي منهم قد يعتدي عليك. كما أن الأطفال الذين يبالغون في رد فعلهم تجاه عدوان أقرانهم، والذين لا يلاحظون احتياجات الأطفال الآخرين، والذين يسهل انطفاؤهم أو فقدانهم السيطرة على اندفاعاتهم، هؤلاء الأطفال عرضة للنبذ والاستبعاد من دعوات المبيت أو لقاءات الترفيه؛ وفي نهاية المطاف يتعلمون مواراة خوفهم عن طريق التظاهر بالخشونة، او يقضون الكثير من الوقت بمفردهم، في مشاهدة التلفاز أو الانشغال بالألعاب الحاسوبية، وبهذا يزداد تخلفهم عن الركب في ميدان المعارات العلائقية والتنظيم الذاتي الانفعالي.

إن احتياجنا للتعلق لا يتضاءل أبدًا؛ وذلك ببساطة لأن معظم البشر لا يستطيعون تحمل الانفكاك عن الآخرين لأي مدة من الزمن وإن قصرت، بل إن الذين لا يستطيعون الاتصال بالأخرين بواسطة الصداقة، أو العائلة، أو العمل، هؤلاء عادة ما يجدون طرقًا أخرى للترابط؛ كالمرض، أو الدعاوي القضائية، أو الخلافات العائلية؛ إن أي شيء آخر هو أفضل من تعاسة حس الاغتراب وانعدام الصلة.

قبل بضع سنوات، في عشية الكريسماس، استدعيت لفحص صبي يبلغ من العمر أربعة عشر عامًا بسجن مقاطعة سوفالك: لقد اعتقل جاك Jack  لاقتحامه منزل جيرانه الذين كانوا في إجازة، ومن العجيب أن الشرطة قد وجدته واقفًا في منتصف غرفة المعيشة وصافرة إنذار السطو مدوية.

وكان أول سؤال طرحته على جاك هو "من الذي تتوقع أن يزورك في السجن في الكريسماس؟" فأجاب قائلاً: "لا أحد"، "أنا لا أحظى بانتباه أحدٍ أبدًا". ثم اتضح أنه كان قد اعتقل مرات عديدة أثناء ارتكابه السطو، وأنه يعرف أفراد الشرطة، وأنهم أيضًا يعرفونه. كما أخبرني -مسرورًا- أن رجال الشرطة حين رأوه واقفًا في غرفة المعيشة صاحوا قائلين: "يا إلهي، إنه جاك مجددًا، ذلك اللعين الصغير"؛ لقد عرفه شخص ما! هناك أحد يعلم اسمه! وبعد قليل وقت اعتراف جاك قائلاً: "أتعلم، هذا ما يجعل الأمر جديرًا بالعناء". إن الأطفال على استعداد لفعل أي شيء تقريبًا ليشعروا أنهم مرئيون ومتصلون.