في مديح البطء: حِراك عالمي يتحدى عبادة السرعة

كارل أونوريه ٢٤ أكتوبر ٢٠٢٢

حكمة البطء

حين نحافظ على الذهن نشطًا دائمًا فإننا نسيء استخدام أثمن ما لدينا من موارد طبيعية!

صحيح إن بمقدور المخ القيام بالمعجزات حين يكون في حالة نشاط قصوى،

لكنه سيفعل أكثر من ذلك بكثير إذا ما أتيحت له فرصة الإبطاء من وقت لأخر.

يمكن لتخفيض نشاط الذهن أن يحقق صحة أفضل، وأن يمنح هدوءًا داخليًا، وتركيزًا معزّزًا، وتفكيرًا أكثر إبداعًا،

ويمكن أن يجلب لنا ما يسميه ميلان كونديرا "حكمة البطء".

 

العالم كله اليوم مصاب "بمرض الوقت".. بيد أن الوقت حان الآن لرفض اندفاعنا الوسواسي لأداء كل شيء بسرعة. السرعة ليست دائمًا السياسة الأفضل، فالتطور يعمل وفق مبدأ البقاء للأصلح، وليس للأسرع. تذكر من فاز في سباق السلحفاة والأرنب. حين نسرع في حياتنا، ونحشو المزيد في كل ساعة فيها، فإننا نحمِّل أنفسنا فوق طاقتها إلى حدّ الانهيار. وحين نخوض الحرب على عبادة السرعة، تكون خطوط القتال الأمامية داخل رؤوسنا. فسيظل التسارع هو الإعداد الافتراضي default setting حتى تتغير مواقفنا في الحياة واتجاهاتنا الداخلية attitudes.

بالتأكيد تغدو الحياة سطحية حين تكون على عجل. فحين نهرع لا نتعمق في الأمور، ونفشل في إقامة اتصال حقيقي مع العالم أو مع الآخرين. وكما كتب ميلان كونديرا في روايته "البطء": "عندما تجري الأمور بسرعة كبيرة، لا يمكن لأحد أن يكون متأكدًا من أي شيء، أي شيء على الإطلاق، ولا حتى من نفسه."

قد دمّر التسابق على السرعة كل شيء، فنسينا كيف نترقب الأشياء، وكيف نستمتع بلحظة وصولها. ثم تأتي لعنة تعدد المهام، فأداء شيئين في وقت واحد يبدو أمرًا ذكيًا جدًا ويتسم بالكفاءة والحداثة. ومع ذلك، فإنه يعني غالبًا أن لا تحسن أداء الشيئين جيدًا. وأنا مثل كثير من الناس، أقرأ الأخبار (ربما على الموبايل) أثناء مشاهدة التليفزيون، وأجد أن حصيلتي من كليهما أقل. واليوم، فإن رد الفعل على السرعة آخذ ينتقل إلأى التيار السائد بإلحاح أكثر من أي وقت مضى (تيار العودة للبطء).

كلمتا "السرعة" و"البطء" لا تقتصران على وصف سرعة التغير، بل انهما اختصار لأساليب العيش أو فلسفات الحياة. فالسريع مشغول، ومتحكم، ومندفع، ومتعجل، وتحليلي، ومجهَد، وسطحي ، وضجر (متململ)، ويفضل الكم على الكيف. والبطيء عكس ذلك: رائق، ومتأنّ، ومنفتح، وهاديء، وحدسي intuitive ، وغير مستعجل، وصبور، ومتأمل، ويفضل الكيف على الكم. البطيء يهمه صنع روابط حقيقية مفيدة مع الناس، والثقافة، والعمل، والطعام، وكل شيء. المفارقة هي أن اتّباع حركة البطء، لا يعني دائمًا البطء. وسنرى كيف أن أداء المهمة ببطء، يعطي في كثير من الأحيان نتائج أسرع. كما يمكن فعل أشياء بسرعة مع المحافظة على ذهنية التباطؤ، كما تقول مبادئ الكاتب كارلو بتريني "المتعة قبل الربح، والإنسان قبل الشركة/المؤسسة، والبطء قبل السرعة."

 

العيش البطيء

 "أحد أجمل ما في الحياة هو تزجية الوقت (تخصيص الوقت وإطالته)

على طاولة مستديرة مع الأهل والأصدقاء، للاستمتاع بالطعام الجيد حقًا وبالنبيذ." (فيفيان زونينو)

"عندما ترى كيف يأكل الفرنسيون أو الإيطاليون، ومقدار الوقت والاحترام الذي يمنحونه للطعام،

تدرك مدى خطأ الأسلوب الأمريكي." (ماثيو كوفاسفيتش)

"للإسراع في تخفيف الإجهاد، حاول أن تبطئ." (ليلي توملين)

 

"حسنًا، تقول برونا سيبيلي، وسيرجي كونتيجاكومو (من رواد حركة "المدن البطيئة"): نحن نأمل بخلق مناخ جديد، وطريقة جديدة تمامًا للنظر إلى الحياة فيما يُسمى بـ"المدينة البطيئة"، حيث لديك حق الاسترخاء، والتفكير، والتأمل في الأسئلة الوجودية الكبرى."

نعم، فكل ما في حياة المدينة (المعتادة) من أصوات نشاز، وسيارات، وحشود، ونزعة استهلاكية، يدعونا إلى الاستعجال بدلاً من الاسترخاء والتأمل والتواصل مع الناس. تبقينا المدن في حالة حركة، وتنبه، وبحث دائم عن الحافز المقبل، إنها تنفرّنا حتى حين تفتننا، وتصدّنا حتى حين تسحرنا. وقد كشف استطلاع حديث أن 25% من البريطانيين لا يعرفون حتى أسماء جيرانهم."

تحت شعار "العيش الجيد" توضح برونا سيبيلي الفكرة، قائلة "دعني أشرح أمرًا: المدينة البطيئة لا تعني وقف كل شيء وإعادة الزمن للوراء. نحن لا نريد العيش في متاحف، أو شيطنة كل الوجبات السريعة. كل ما نريده هو أن نحقق التوازن بين العصري والتقليدي تعزيزًا للحياة الجيدة."

إن اليابانيين الذين كانوا يسخرون من الريف باعتباره مضادًا للعصر، صاروا يكتشفون سحر ركوب الدراجات في حقول الرز، في الجبال. وبعدما كانت منطقة أوكيناوا الريفية محط سخرية لبطء وتيرة الحياة فيها، فإنها اليوم نقطة جذب للمدنيين الحريصين على أن يحيدوا قليلاً عن خط الحياة السريع..

"وحتى سكان المدن الكبرى في جميع أنحاء العالم بدأوا يطبقون على معيشتهم في المدينة، وبنجاح، مباديء فلسفة البطء..

وثمة مثال آخر على تباطؤ الحياة الحضرية، هو الحرب على الضوضاء. فلتعزيز السلام والهدوء، ألزمت توجيهات الاتحاد الأوروبي الجديدة جميع المدن الكبيرة بخفض مستويات الضوضاء بعد الساعة 7 مساء. بل إن مدريد أطلقت حملة لإقناع مواطنيها الذين يشتهرون بارتفاع أصواتهم أن يخفضوها..

كذلك أصبحت الضغوط الرامية إلى إبطاء حركة المرور أقوى اليوم من أي وقت مضى، وأطلقت الحملات الإعلامية ضد القيادة السريعة، مثلها مثل أي جبهة أخرى من جبهات المعركة لصالح البطء."

"بمجرد البدء في طرح الأسئلة حول السرعة، تلك الكلمة بأحرفها الأربعة، فإننا نتجاوز حدود السيارة في تساؤلاتنا لتشمل الحياة بشكل عام: لماذا أنا مستعجل هكذا؟ ما الحكمة من العجلة لتوفير دقيقة أو اثنتين فقط؟

يقول بيتر هولند (من خريجي برنامج "التوعية بمضار السرعة Speed awareness program"): "عندما نحافظ على هدئنا في القيادة، نصبح أكثر هدوءًا مع عائلتنا، وفي عملنا، وفي كل شيء. أنا على العموم شخص أكثر هدوءًا الآن."

حسنًا، حين يتعلق الأمر بجعل المدن أكثر ملائمة للعيش، فإن تعلم الامتثال للحد الأقصى للسرعة هو البداية فحسب.

 

"التفكير السريع" في مقابل "التفكير البطيء"

حين نحافظ على الذهن نشطًا دائمًا فإننا نسيء استخدام أثمن ما لدينا من موارد طبيعية! صحيح إن بمقدور المخ القيام بالمعجزات حين يكون في حالة نشاط قصوى، لكنه سيفعل أكثر من ذلك بكثير إذا ما أتيحت له فرصة الإبطاء من وقت لأخر. يمكن لتخفيض نشاط الذهن أن يحقق صحة أفضل، وأن يمنح هدوءًا داخليًا، وتركيزًا معزّزًا، وتفكيرًا أكثر إبداعًا، ويمكن أن يجلب لنا ما يسميه ميلان كونديرا "حكمة البطء".

يعتقد الخبراء أن للمخ وضعين للتفكير، كتب الطبيب النفسي البريطاني غاي كلاكستون Guy Claxton كتابًا بعنوان "دماغ أرنب وعقل سلحفاة – لماذا يزيد الذكاء عندما تقلل التفكير Hare Brain, Tortoise Mind – Why Intelligence Increases When You Think Less" ، وفيه أطلق على الوضعين اسم: "التفكير السريع" و"التفكير البطيء". التفكير السريع متعقل، تحليلي، خطي، منطقي. وهو ما نفعله تحت ضغط تكات الساعة. إنه أسلوب تفكير أجهزة الكمبيوتر وأسلوب عمل أماكن العمل الحديثة. إنه يضع حلولاً واضحة لمشاكل محددة جيدًا. أما التفكير البطيء فهو حدسي، ملغزٌ ولإبداعي. وهو ما نفعله عندما ينتهي الضغط، ويكون لدينا وقت كي ندع الأفكار على الموقد الخلفي لتنضج على مهلها. إنه يثمر أفكارًا غنية ودقيقة. ويظهر التصوير بالمسح للمخ أن وضعي التفكير يُصدران موجات مختلفة في الدماغ: موجات ألفا وثيتا البطيئة تظهر خلال التفكير البطيء، موجات بيتا السريعة خلال التفكير السريع.

غالبًا ما يكون الاسترخاء مقدمة تسهل التفكير البطيء. وأظهرت الأبحاث أن التفكير الخلاق يزداد عندما يكون المرء هادئًا، ومتأنيًا، وغير مجهّد. كما أظهرت أن ضغط الوقت يؤدي إلى رؤية أنبوبية (ضيقة). وفي دراسة نُفِذت سنة 1952، طُلِبَ من المشاركين تشفير عبارات بسيطة في رموز أساسية. كان الباحث الذي ينفذ البحث يسلم الكلمات للمشاركين أحيانًا من دون تعليق، ولكنه كان أحيانًا يسألهم: "هل يمكنك فعل ذلك أسرع قليلاً؟" وكان المشاركون يتعثرون دومًا عندما يُطلَب منهم الإسراع.

أجل، يصبح التفكير البطيء بحد ذاته مجرد «دلع» ما لم تصاحبه صرامة التفكير السريع. فعلينا أن نتمكن من اغتنام الأفكار التي تطفو قادمة من اللاوعي، وتحليلها وتقييمها، وغالباً ما يجب الإسراع في ذلك. قدر آينشتاين الحاجة إلى تزاوج وضعيتي التفكير بقوله: «تدهشني أجهزة الكمبيوتر كم هي سريعة ودقيقة وغبية! ويدهشني البشر كم هم بطيئون وخطاؤون والمعيون، معاً يشكلون قوة تفوق الخيال». لهذا فإن أذكى الأشخاص وأكثرهم إبداعاً يعرفون متى يتركون عقولهم تسرح، ومتى يجعلونها تنكب على العمل الشاق، وبعبارة أخرى، متى تكون بطيئة ومتى تكون سريعة؟

فكيف يستطيع من تبقى منا الوصول إلى حالة التفكير البطيء، خصوصاً في عالم يقدم المكافآت للسرعة والحركة؟ الخطوة الأولى هي الاسترخاء، وطرح التململ جانباً، ووقف الصراع، وتعلم كيفية تقبل الغموض والسكون. انتظار الأفكار ريثما تختمر بهدوء تحت الرادار، بدلاً من السعي إلى إظهارها على السطح بالعصف الذهني. دع الذهن هادئاً وساكناً. قال أحد أساتذة فلسفة الزن: «بدلاً من أن نقول: «لا تكتف بالجلوس. افعل شيئاً» علينا أن نقول: «لا تكتف بالفعل، اجلس»». يعد التأمل سبيلاً لتدريب الذهن على الاسترخاء، فهو يخفض ضغط الدم، ويولد في الدماغ مزيداً من موجات ألفا وثيتا البطيئة. وأظهرت الأبحاث أن تأثيرات التأمل تستمر طويلاً بعد انتهائه.

هل من الممكن نقل هذا الهدوء التأملي إلى العالم الحقيقي؟ يبدو أن الجواب هو نعم كبيرة.

يمكن أن يخفف التأمل من وطأة الحياة الحضرية المحمومة.

يقول نيل بافيت، الرجل الذي يعمل في الصناعة المحمومة للإعلانات: «التأمل أشبه بصخرة يمكنني الارتكاز إليها دوماً، أرضية متينة تمنحني الثقة، ومركز أرجع إليه دوماً لأستمد منه القوة. حين يزداد ضغط العمل وأصل إلى درجة الإرهاق، آخذ فقط خمس أو عشر دقائق لأمارس بعض تمارين التنفس، فهي تعيد السكينة إلى ذهني». وجد بافيت أيضاً أن التأمل يفتح الباب أمام التفكير البطيء. قال: «التأمل مفيد للجزء الإبداعي من عملي، لأنه يجعل ذهني رائقاً هادئاً. وغالباً ما يساعدني التأمل في توضيح أبعاد أي مشكلة تواجهني، وفي جعل الأفكار الجيدة تطفو على السطح».

 

"إحدى طرق زرع البطء الداخلي في نفوسنا تخصيص وقت للأنشطة التي تتحدى التسارع،

كالتأمل، والحياكة، والبستنة (الزرع)، واليوجا، والرسم، والمطالعة، والمشي، ورياضة تشي كونج."

 

البطء في مجالات الحياة المختلفة، من العمل إلى الاستجمام

لتجنب الانهيار، وتعزيز التفكير الإبداعي، فإن خبراء الأعمال والمعالجين والعلماء باتوا يصفون على نحو متزايد تناول جرعات من البطء في مكان العمل. في كتاب ذائع الصيت صدر في سنة 2002 بعنوان: «كيف تنجح في عملك من دون الكد القاتل في العمل How to Succeed in Business Without Working So Damn Hard»، اقترح المؤلف روبرت كرايغل Robert Kriegel أخذ استراحات منتظمة لمدة 15-20 دقيقة في أثناء النهار. ونصح الدكتور دونالد هينسرودDonald Hensrud، مدیر برنامج الصحة التنفيذية في مستشفى مايو كلينيك، بقوله: «حاول إغلاق باب مكتبك وإغلاق عينيك لمدة خمس عشرة دقيقة. استرخ على الكرسي ثم تنفس بعمق». حتى في القطاعات عالية السرعة وعالية الضغط، فإن الشركات تتخذ خطوات لمساعدة موظفيها في الإبطاء. بعضها يمنح الموظفين إجازات طويلة مدفوعة، على أمل أن ينعشهم قضاء فترة طويلة بعيداً عن المكتب، وأن يحفز إبداعهم، فيها توفر شركات أخرى لموظفيها ضمن المكتب جلسات يوغا وعلاجاً بالعطور وتدليكاً، أو تشجع العمال على تناول الغداء بعيداً عن مكاتبهم. وخصصت بعض الشركات غرفاً لتهدئة الأعصاب. في طوكيو، وتحديداً في مكتب شركة أوراكل، عملاق صناعة البرمجيات، تتوفر للموظفين غرفة تأمل عازلة للصوت مع أرضية خشبية تحف بها الحصى الملساء والتحف الفنية الشرقية، والإضاءة خافتة في الغرفة، مع أثر من البخور يفوح في جوانبها. حين نضغط الزر، نسمع أصوات خرير مياه مهدئة، تصدر عن نظام ستيريو.

يقول المدير التنفيذي تاكيشي ساتو Takeshi Sato: "قد يظن البعض أنها دقائق من الوقت المهدور جزافاً، لكنني أراها دقائق استثمرت استثماراً جيداً. فحين ترغب في أداء جيد، يغدو من المهم جداً أن تتمكن من الانتقال بين حالتي الفعالية والسكون، السرعة والبطء. وبعد فراغي من غرفة التأمل يغدو ذهني أكثر صفاء وهدوءاً، ما يساعدني في اتخاذ القرارات السليمة». ويمضي آخرون بالتباطؤ حتى نهايته، فتراهم ينامون فعلاً خلال يوم عملهم. فعلى الرغم من أن النوم في العمل من المحرمات، فقد أظهرت الأبحاث أن من شأن «قيلولة طاقة» قصيرة، مدتها المثالية عشرون دقيقة، أن تزيد الطاقة والإنتاجية. وقد خلصت دراسة حديثة أجرتها وكالة ناسا، إلى أن إغلاق العيون أربعاً وعشرين دقيقة تفعل العجائب من حيث يقظة رواد الفضاء وأدائهم. وكان العديد من الشخصيات الأكثر قوة ونجاحاً في التاريخ ممن يصرون على القيلولة: جون كينيدي، وتوماس أديسون، ونابليون بونابرت، وجون روكفلر، ويوهانس برامز. أما ونستون تشرشل فقد كان المدافع الأكثر بلاغة عن إغفاءة بعد الظهر حين قال: «لا تظن أنك ستؤدي عملاً أقل لأنك نمت في أثناء النهار. هذه فكرة حمقاء  من أناس لا يملكون الخيال. لأنك ستكون قادراً على إنجاز المزيد. سيكون لديك يومان في واحد، أو على الأقل يوم ونصف».

وتحث فيشتا، وهي مدينة صغيرة في شمال ألمانيا، الموظفين الحكوميين على أخذ قيلولة عصراً بعد الغداء على كراسي مكاتبهم أو في المنزل. وتبدو النتائج، من المصانع الأمريكية إلى البلدية الألمانية، متماثلة: موظفون أكثر سعادة، وروح معنوية أفضل، وإنتاجية أعلى. والواقع أننا قد نشهد المزيد من قيلولات العمل. ففي سنة 2001، كشفت شركة سيدس، الرائدة أوروبياً في صناعة أثاث المكاتب، النقاب عن كرسي جديد يفتح إلى وضع أفقي، فيسمح للجالس برقدة وهو في مكتبه.

وقد خضت في حديث مع بائع شاب يدعي لويس، كان يعدل ربطة عنقه بعد قيلولة دامت خمس عشرة دقيقة. بدا منتعشاً بدرجة تضاهي شعوري بالانتعاش. قال وهو يتحقق من إغلاق حقيبته: «هذا أفضل بكثير من الذهاب إلى صالة التمارين الرياضية. أشعر أنني بكامل نشاطي. ومستعد لأي شيء».

 

أما عن الاستجمام، فيقول برتراند راسل: "أسمى نتاجات الحضارة هو أن يتمكن المرء من الاستجمام بذكاء."

في عالم مهجوس بالعمل، يغدو الاستجمام والتمتع بأوقات الفراغ أمراً خطيرًا. ولكن الأمم المتحدة قد أعلنته في 1948 حقاً أساسياً من حقوق الإنسان، حيث أن ما نفعله في وقت فراغنا يعطي حياتنا شكلاً وملمساً ومعنى.

يعتقد أفلاطون أن السكينة والانفتاح على العالم هي أعلى أشكال الاستجمام، وهو رأي ردده المثقفون الجدد. فصاغه فرانز کافکا Franz Kafka على هذا النحو: «ليس من الضروري أن تغادر غرفتك. الزم كرسيك وأصغ. كلا، لا تصغ، انتظر وحسب. كلا لا تنتظر، يكفي أن تلبث ساكناً هادئاً وحيدًا، إذ سيأتيك العالم بملء إرادته ليرجوك أن تخلع عنه قناعه. لا يسعه أن يفعل غير ذلك، وهو يتلقى منتشياً عند قدميك».

وللأسف عندما يتسنى لنا وقت فراغ، فإننا نادراً ما نستخدمه لنسلك سلوكًا قريبًا من خيالنا الأفلاطوني في السكون والانفتاح؛ ونهرع، عوضًا عن ذلك، مثل تلاميذ فريدريك تايلور Frederick Taylor الجادين، إلى ملء كل لحظات فراغنا بالأنشطة والخطط. حتى صار أي وقت متاح في أجندتنا مصدر ذعر بدلاً من متعة.

 

عانت الحياكة، مثل الحرف المنزلية الأخرى، كالطبخ والخياطة، من الإهمال في النصف الثاني من القرن العشرين. واستنكرت الحركة النسوية العمل المنزلي بوصفه لعنة على جنس النساء، وعائقاً أمام تحقيق المساواة بين الجنسين. ولم تعد الحياكة، بالنسبة للنساء اللواتي يكافحن من أجل التقدم في عالم العمل، سوى طريقة لشغل جداتنا العجائز في كراسيهن الهزازة. أما الآن، وبعد أن تساوى الجنسان، بدأنا نشهد عودة فنون الأيام الخوالي المنزلية.

وعادت الحياكة رسميًا لتصبح شيئاً «لذيذًا»، بعد أن روجت لها دعاة شهيرات للحركة النسوية مثل ديبي ستولر Debbie Stoller، وأشادت بها المراقبات بوصفها «اليوغا الجديدة» التي يمارسها في أوقات فراغهن بعض أغنى شخصيات هوليوود النسائية مثل جوليا روبرتس Julia Roberts، وغوينيث بالترو Gwyneth Paltrow، وكاميرون دياز Cameron Diaz. ويمارس هذه الهواية منذ 1998 أكثر من أربعة ملايين من الأمريكيين الذين تقل أعمارهم عن خمسة وثلاثين عاماً، معظمهم من النساء اللواتي تراهن في نيويورك يرتدين سترات رالف لورين وأحذية برادا، ويحكن بحاسة في مترو الأنفاق، أو في كراسي ستاربكس المريحة الكبيرة. ويتبادلن على عشرات المواقع الإلكترونية النصائح حول كل شيء، ابتداء من اختيار أفضل أنواع الصوف للقفازات، وحتى علاج تشنج الأصابع. زوروا أي متجر جديد لمستلزمات الحياكة، لتجدوه يبيع الأصواف الأنيقة، مثل الفراء الصناعي أو الكشمير، والتي كانت يوماً متاحة فقط لمصممي الأزياء.

تقول الكاتبة برناديت ميرفي : «تعاني ثقافتنا عطشاً عظيماً للمعنى، وللأشياء التي تربطنا بالعالم وبالآخرين، وبالأشياء التي تغذي الروح حقاً. والحياكة مجرد طريقة لمنح الوقت اللازم لتقدير الحياة، والعثور على ذلك المعنى، ولصياغة تلك الروابط». حيث يحكن النساء صداقاتهن مع كل غرزة. تقول برناديت: «في العالم الحديث، من السهل جداً، والرخيص جداً، والسريع جدا شراء الأشياء. لذلك فقدت الأشياء التي نشتريها قيمتها. ما قيمة الأشياء حين يمكنك بلحظة شراء عشرة أشياء تماثلها بالضبط؟ عندما تكون القطعة مصنوعة يدوياً، فهذا يعني أن شخصاً ما استثمر الوقت فيها، وهذا ما يكسبها القيمة الحقيقية».

الحياكة بطبيعتها بطيئة. لا يمكننا ضغط زر، أو تدوير قرص، أو تحريك مفتاح، فنحيك بسرعة. وتكمن متعة الحياكة الحقيقية في الفعل ذاته، وليس في الوصول إلى خط النهاية. وتشير الدراسات إلى أن رقص إبر الحياكة الإيقاعي المتكرر يمكن أن يقلل سرعة ضربات القلب وضغط الدم، وأن يهدئ الحائك ويدخله في حال أشبه بالتأمل.

يستخدم العديد من الحائكين هوايتهم بمثابة مضاد للإجهاد والإسراع اللذين يطبعان الحياة العصرية. يحيكون قبل الاجتماعات الكبيرة وبعدها، وخلال المكالمات الجماعية أو في نهاية يوم شاق. ويدعي البعض أن تأثير الحياكة المهدئ يستمر إلى ما بعد ترك الستارة، وأنها تساعدهم في الحفاظ على هدوء طباعهم في أماكن العمل ذات الحركة السريعة. وتجد برناديت أن الحياكة تساعدها في الولوج في وضعية التفكير البطيء. وتقول: «أستطيع أن أشعر فعلاً أن الجزء النشط من ذهني يصفو، ما يساعدني في حلحلة عقدة أفكاري المتشابكة. الحياكة علاج رائع لحالة الانسداد التي قد يعاني منها الكاتب».

لا بد من هواية ذات تقنيات بدائية تساعد الناس في الإبطاء، وذلك للحفاظ على جاذبية هذا العالم.

ينطبق الشيء نفسه على العناية بالحدائق: البستنة والزرع. تعد العناية بالحدائق في جميع الثقافات تقريباً ملاذًا للنفس، ومكانًا للراحة والتأمل. وليس صدفة أن كلمة «نيوا» اليابانية، التي تعني الحديقة، تعني أيضاً «الكنف النقي المخصص للعبادة».

وكما الحياكة والبستنة، فإن الجلوس والاستسلام لنصوص مكتوبة هو تحد لعبادة السرعة. وعلى حد تعبير الفيلسوف الفرنسي بول فيريليو Paul Virilio: «القراءة تعني وقتاً للتفكير، وتباطؤاً يدمر الكفاءة الحركية للجموع». وحتى عندما تعاني مبيعات الكتب من ركود أو هبوط، فإن كثيراً من الناس، من سكان المدن المتعلمين خاصة، يهربون من الكفاءة الحركية، وينزوون مع كتاب جيد. بل يمكننا في الواقع الحديث عن نهضة تشهدها القراءة.

تقول بولا دمباوسكي Paula Dembowski «القراءة تضفي على الأشياء معنى آخر أكثر بطئاً». وبالرغم من أن فعل القراءة بطئ بما فيه الكفاية. لكن آخرين يذهبون إلى أبعد من ذلك، بمحاولة القراءة بسرعة أقل. تقول الكاتبة البولندية الأمريكية سيسيليا هوارد Celcilia Howard: «شعاري هو أن كل ما يستحق القراءة، يستحق أن يُقرأ ببطء».

كما وافق الكاتب الإسرائيلي عاموس عوز على ذلك في مقابلة أجريت معه مؤخراً، حيث حثّنا جمعياً على أن نكون أقل سرعة مع الكتب. يقول: «أوصِ بفن القراءة البطيئة. فكل أصناف المتعة التي أتصورها، أو التي أختبرها كانت أكثر سحراً وأكثر بهجة حين كنت أتناولها برشفات صغيرة، حين أمنحها ما تحتاج من وقت. والقراءة ليست استثناء».

أيضاً تقول جيني هارتلي Jenny Hartley، المحاضرة الإنجليزية والخبيرة بشؤون نوادي الكتاب: « القراءة ببطء مشبعة أكثر».

وعلى بعد آلاف الأميال، قال دايل بورت Dale Burnett، أستاذ التربية في جامعة ليثبريدج الكندية: «صرت أكن تقديراً أعمق بكثير للكتب التي أقرأها الآن. فالقراءة البطيئة ترياق لحالتنا الحاضرة، وخطانا السريعة». يمكن قول الشيء نفسه عن الفن، فللرسم والنحت، وأي خلق فني علاقة خاصة بالبطء، كما قال الكاتب الأمريكي المعروف سول بيلو Saul Bellow: «الفن هو تحقيق السكون في خضم الفوضى. سكون يميز... عين العاصفة... استقطاب الاهتمام في خضم التشتّت».

في العالم اليومي، بدأ الناس العاديون يلجأون إلى ممارسة الفن كوسيلة لإبطاء التسارع. من أول اللوحات الإعلانية التي شاهدتها في شوارع طوكيو باللغة الإنجليزية كانت «دورة الاسترخاء بواسطة الفن»، حيث يستخدم كازوهيتو سوزوكي Kazuhito Suzuki الرسم من أجل الإبطاء، فبوصفه مصمم ويب في العاصمة اليابانية، فإن هذا الشاب البالغ من العمر ستة وعشرين عاماً يعيش ملاحَقاً دوماً بالمهل الزمنية. ولدرء ما كان يعتقد أنه انهيار وشيك، قرر الالتحاق في سنة 2002 بدورة فنية. وبات ينضم مساء كل أربعاء إلى دزينة من الطلاب الآخرين فيرسمون لمدة ساعتين أو ثلاث ساعات الطبيعة الصامتة والمانيكانات. لا مُهل زمنية، ولا منافسات، ولا عجلة، فليس هناك إلا هو وفنّه. وفي مكتبه، لا يبتعد حامل اللوحة سوى بضعة أقدام عن كمبيوتره. يقول سوزوكي: «يساعدني الرسم في تحقيق توازن بين السرعة والبطء، لدرجة أني أشعر أنني بت أكثر هدوءاً، وأكثر سيطرة على زمام أموري».

ويمكن للموسيقى أن تمنح مفعولاً مماثلاً. فالغناء والعزف بأنفسنا على الآلات، أو الاستماع إلى الآخرين يقومون بذلك، من أقدم أشكال الاستجمام. يمكن للموسيقى أن تكون بهجة وتحدياً وإثارة، أو ربما تهدئة واسترخاء. وهذا بالضبط ما يرنو إليه معظمنا في الوقت الحاضر، حيث تعد المصنفات الكلاسيكية التي تتضمن أسماؤها كلمات مثل «الاسترخاء» و«السكينة» و«الهدوء»، من أسرع الأعمال مبيعاً.

 

"نحن نفهم، أكثر من أي جيل قبلنا، مدى خطورة وعبث التسارع المستمر،

 ونحن مصممون أكثر من أي وقت مضى على دحر عبادة السرعة."

 

كارل أونوريه

من كتاب بنفس عنوان المقال