الناقد الداخلي

كرستين نِف ٢٤ أكتوبر ٢٠٢٢

ما هذه النفـس التي بداخلنـا، هذا المترصد الصامت، هذا الناقـد الأخـرس الفـظ، الذي يبـث فينا الـرعـب مـتـى شاء ويحثنـا علـى" فـعـل أشــياء لا ثمر لـهـا، ثـم ينقدنـا نـقـدًا أشـد علـى أخطـاء لم يجرنـا إليهـا إلا توبيخـه."

(توماس ستيرنز إليوت)

 

قبـل مناقشـة الرفق بالنفـس تفصيلاً، لا بد أن نفهـم أنمـاط تفكيرنا غير الصحيـة. حيـن نـبـدأ فـي فـهـم كـيـف تعمـل عقولنـا، نبـدأ فـي ملاحظـة مقدار التشـويـه الـذي نضفيـه عـلـى نظرتنـا إلـى الـعـالـم كـي نرضى عن أنفسنا كأننـا نـجـمـل صورتنـا حـتـى تصيـر علـى الهيئـة التـي نـريـدها، ولو كان ذلـك يشوه الـواقـع تشـويها بالغًـا. ثـم إذا عجزنـا عـن بـلـوغ مـا نـطـمـح إليـه نقدنـا أنفسنا وزدنـا فـي النقـد إلـى أن نشـوه الـواقـع كـمـا شـوهنـاه فـي تـجميـل صـورتنـا فيتضاعف التشـويه ويخـرج لنـا شـيء أشبه باللوحة السيريالية..

يتخـذ معظـم نقدنـا لأنفسـنـا صـورة محادثـة داخليـة، ننظـر إلـى أنفسـنا ونقارنها بالصـورة التـي نـحـب أن نكـون عليهـا. هـذه المحادثـة الداخليـة تكون عـادة فظـة خشنة، لأن لا أحـد يسـمعها فيخفـف من حدتهـا. «أنـت بـديـن سـمين، ومقـزز تثيـر الاشمئزاز!» «لمـاذا قلـت هـذا القـول السخيف؟» »أنـت إنسـان خائـب. ولـن يرضـى بـك أحـد». هـذا الـكـلام ثقيـل مـؤلـم!.. ولـكـن ربـمـا نفـهـم هـذا السلوك إذا عرفنـا أن نقدنـا لأنفسـنـا مثـل تعظيمنـا لأنفسـنا سـلـوك نسـلكـه فـي سـبيل تحصيـل القبـول مـن الجماعـة. أقـوى الكلاب فـي السـرب يـنـال نصيبـه مـن الطعـام أولا، ولكـن الكـلـب الضعيـف ينـال نصيبـه مـن الطـعـام أيضًـا، ويعيـش آمـنـًا فـي سـربه وإن كان دون سـائر الكلاب فـي القـوة. نقـد النفـس إذعـان، لأننـا إذ ننقـد أنفسنا نذعـن لقضـاةٍ متخيَلين وندعهـم يحكـمـون علينـا، ثـم نـكـافأ علـى هـذا الإذعـان بقليـل مـن فتـات الطـعـام علـى الطاولة. حيـن نـُجبـر علـى الإقـرار بعيوبنـا نـكـسـب رضـا هؤلاء القضـاة المتخيَليـن، وذلك بالإذعـان لآرائهـم السيئة فينـا.

تأمـل كـيـف ننتقـد أنفسـنـا أمـام الآخريـن: «أنـا مثـل البقـرة فـي هـذا الفستان» أو «أنـا لا أفقـه شيئًا فـي الحواسيب» أو «أنـا أسـوأ النـاس فـي معرفة  الاتجاهات!» (وآخـر جملـة هـذه اعتـدت قولـهـا، لا سيما حيـن أحـمـل أصدقائي إلـى بيوتهـم وأضـل الـطـريـق للـمـرة الألـف.) ونحـن إذ نصنـع ذلـك كأننا نـقـول لـمـن معنـا: «سأسـبقك إلـى نقـدي. أعلـم مقدار نقصـي. أقـول ذلـك لئلا تجرحنـي وتقـول لـي مـا أعلمـه عـن نفسـي. لعلـك تشـفـق علـيّ بدلاً مـن أن تحكـم علـيّ، وتؤكـد لـي أنـي لسـت سـيـئة كـمـا أظـن». ينشـأ هذا السلوك الدفاعـي مـن كـرهنـا للرفـض والهجـر، وهـو سـلـوك مفهـوم يـوافـق غرائز البقـاء الأساسية المودعـة فينـا.

 

دور الآباء

أهـم جماعـة تـعيـن عـلـى البقـاء هـي الأسـرة. يعتمـد الأبنـاء عـلـى الآبـاء فـي توفيـر الـطـعـام والراحـة والـمـأوى والوقايـة مـن البـرد. هم يثقـون بآبائهـم بالفطـرة في توضيـح مـعـانـي الأشياء ومواجهة التحديات المخيفـة وحمايتهـم مـن الأخطار. الأطفـال مضطرون إلى الاعتماد علـى آبانـهـم كـي ينجـوا فـي هـذا العالم. ولكـن مـع الأسـف، كثيـر مـن الأبـاء لا يوفرون الراحـة والـدعـم، بـل يحاولون السيطرة على أبنائهـم بالنقـد المستمر. كـثـيـر مـنـا مـع الأسـف نشـأ مثـل هـذه النشـأة.

ولا عـجـب أن الأبحـاث تشير إلى أن مـن نـشـأ صغيـرًا بـيـن أبويـن كـثيـري النقـد كـان أشـد نقـدًا لنفسـه مـن غيـره عنـد الكـبـر.. فالنـاس يتشربون نقـد آبانـهـم، أي أن النقـد المستمر الـذي يسمعونه داخـل أدمغتهـم فـي الغالـب هو انعكاس لأصـوات آبائهـم، وأحيانا ينتقـل ويتكـرر عبـر الأجيـال. قـال لـي رجـل مـن قبـل: «لا أستطيع إسكات الصـوت الـذي في دماغـي. كـانـت أمـي تنقـدنـي عـلـى كـل شـيء أفعلـه، علـى أكـلـي الـطـعـام مثـل الخنازير، ولبسي الملابس غيـر المناسبة عنـد الذهـاب إلـى الكنيسة، والإفراط فـي مشاهدة التلفاز، كانت تجلدنـي علـى كـل شـيء. كـانـت تـقـول دائمًا: "لـن تفلح فـي شـيء." ظـلـت هـكـذا حـتـى كـرهـتهـا وعـاهـدت نفسـي ألا أربـي أطفـالـي كـمـا تربيت. ولكـن الـغـريـب أنـي أُحسِـن إلـى أطفالي وأسيئ إلـى نفسـي إساءة عظيمـة، لا أكـف عـن انتقـاد نفسـي، بـل أنتقدهـا أكثـر ممـا كـانـت تصنـع أمـي». يتعلـم الـذيـن نـشـأوا بيـن آبـاء كـثيـري النقـد الـدرس مبكــرا: نحـن خـائبـون معيوبـون لا نستحق أن يقبلنـا النـاس أبـدًا.

يؤدي الآبـاء كثيـرو النقـد عـادة دوريـن، الشرطي الخير والشرطي الشـرير، طمعًـا فـي تشـكيل أبنائهـم كـمـا يـريـدون. الشـرطي الشـرير يعاقـب علـى السلوك غيـر المـرغـوب، والشـرطي الخيـر يـكـافـئ السلوك المرغـوب. هـذا يبث الـخـوف ويُذهِـب الثقـة مـن نفـوس الأطفـال، ومـا يـلبـث أن يـدرك الأطفـال أنهـم لا يستحقون الحـب مـا لـم يـكـونـوا كـامليـن. ولأن الكمـال مستحيل، يـدرك الأطفـال أنهـم مرفوضـون لا محالـة.

أكثـر الأبحـاث التـي تبحـث منشـأ نـقـد النفـس تركـز عـلـى الآباء، والـحـق أن النقـد المستمر سـواء وجـهة الأب أو الـجـد أو الأخ أو المـدرس أو الـمـدرب يجعـل الـطـفـل ينقد نفسـه نقدًا شـديدًا حين يكبر. كان لـي صـديـق إنجـليـزي اسمه كيت، وكان يجلـد نفسـه جـلـدًا. مهمـا بـلـغ مـن نـجـاح كـانـت تطارده مشاعر النقـص وعـدم الاستحقاق، وحيـن يـتـحـدث عـن طفولته يظهـر سـبب ذلك: «كان النـاس كـلـهـم يقـولـون لـي مـا أخيبك. وكان أشـدهـم فـي ذلك أختي. كـانـت تـصـرح فـي قائلة: «أنـت مـقـرز!» لأنهـا كـانـت لا تطـيـق صـوت أنفاسي، ثـم تختبـى تـحـت سـريـرهـا إلـى أن أغـادر الغرفة. ومـع الأسـف لـم تكن أمـي تـدافـع عـنـي، بـل كـانـت تـطـلـب منـي أن أعتذر إليهـا حـتـى تـهـدأ وينتهي الخلاف .

الاستجابة الطبيعيـة للأطفـال الـذيـن يُـرمـون بثقيـل الـكـلام هكذا هـي حمـايـة أنفسهم، وأحيانًـا أضـمـن وسـائل الدفـاع ألا يكـون فـي يـد المنتقـد شـيئًا يرميـه. بعبارة أخرى، يظـن الأطفـال أن نقـد النفـس يجنبهـم فـعـل الأخطـاء في المستقبل، ومـن ثـم يحميهـم مـن نـقـد الآخرين. علـى الأقـل يستطيعون تخفيف حـدة النقـد الـذي يلقونـه مـن الآخريـن عـن طـريـق جـعـلـه مـكـررًا. فالكلام الثقيـل تـخـف وطأتـه إذا كان تكــرارًا لـمـا قـلتـه لنفسك أولاً.

 

وسيلة لتحقيق غاية

إذا دققنـا تبيـن لـنـا أن انتقـاد النفـس يُستعمل ويُـراد مـن ورائـه شـيء آخـر؛ وهـو الرغبـة فـي السيطرة. ولأن الآبـاء الناقديـن لأنفسـهـم عـادة شـديدو السيطرة، يـدرك الأطفـال مبكرًا أن السيطرة على النفس ممكنة. حيـن يـلـوم الآباء أطفالهـم عـلـى فـعـل الأخطـاء، يتعلـم الأطفـال أنهـم مسـئولون عـن جميع أخطائهـم. المعنى المتضمَن الـذي يـصـل إليهـم أن الخطـأ مثـل المربع الفـارغ، لا ينبغـي وضـع عـلامـة صـواب فيـه، وأن القصـور عـن بـلـوغ الكمـال يمكـن -بـل ينبغـي– تجنبـه، لـو بـذلـت جـهـدًا كافيًـا لـحققـت دومـا النجاح الكامل الـذي أريـد، أليس كذلك؟

مـا أجمـل ذلـك! لـو أنـا نستطيع استعمال السحر كمـا تصنـع سـامانثا فـي مسلسل (المسحورة Bewitched)، ولا نترك نظامنا الغذائـي المتوازن أبـدُا، ولا نخفـق في مهمـة كُـلـفنـا بـهـا فـي العمل، ولا نقـول شـيئًـا فـي لـحـظـة غـضـب قـد نندم عليه فيمـا بعـد. ولكـن الـحـيـاة لا تسـيـر هـكـذا. الظـروف أعقـد مـن أن نستطيع السيطرة عليهـا، سـواء الظـروف الخارجيـة أو استجاباتنا الداخليـة لـهـا. إن توقع غير ذلـك كتوقـع أن تصيـر السـماء خضـراء.

العجيـب أن نقدنـا لأنفسـنـا قـد يـزيـد مـن رغبتنـا فـي أن نكـون أفضـل مـن الآخريـن. فنـحـن يـمكـن أن نلبـس وجوهًـا مختلفـة مـن أنفسـنـا فـي وقـت واحـد، وجـه الناقـد عـلـى سبيل المثال أو المنقـود. حيـن نطلـق علـى أنفسنا سهام النقـد نـتـخـذ دوري الناقـد والمنقـود. وحيـن نـتـخـذ دور حامـل السـوط ودور الـذي يرتجـف خـوفـًا، تأخذنـا غضبـة مـن سـوء فعالنـا. وغضبـة الـمـرء للحـق لـهـا لـذة. «على الأقـل قـد بلغـت مـن الـذكاء أن أدرك مـدى سـخف هـذا التعليـق الـذي علقتـه التـو». «بلى، قـد أسـأت إليـه إساءة كبيرة، ولكـن لأننـي عـادل سـأعاقب نفسي الآن عقابـًا أليمًـا لا تأخذنـي فيـه رأفـة»! الغضـب يشعرنا بالقـوة والسيطرة، لذلـك حيـن نلبـس وجـه الناقـد ونجلـد أنفسـنا على أخطائنـا ونـحـن غاضبـون نـحـس أننـا متفوقـون عـلـى سـائر الـوجـوه، وهـذايرسـخ فينـا إحسـاس السيطرة.

ولا شـك أنـك إذا أضفـت مزحـة يسـيـرة إلـى نقـدك لنفسـك حُزت محبـة الآخريـن. كـمـا ورد فـي الـمثـل: "ضِحكهـم معـك أحسـن مـن ضِحكـهـم منـك."

ولكن بيـن الـمـزاح الصحـي المستنكِر والمـزاح غير الصحي المحتقِـر فـرق، فالمزاح الصحـي يشير إلـى أنـك واثـق إلـى درجـة السخرية مـن نفسـك، والمـزاح غير الصـحـى يكشـف شـكوكًا عميقـة فـي نفسـك.

 

نبوءة ذاتية التحقق

ولأن مـن ينقـد نفسـه ينشـأ غالبـًا فـي أسـرة غيـر داعمـة، تجـده لا يثـق بالآخريـن ويفترض أن الذين يحبهـم سـيحاولون إلحاق الأذى بـه فيمـا بعـد. وهـذا يعيّشـه فـي خـوف مستمر يجـر عليـه متاعـب فـي علاقاته الاجتماعية. تظهـر الأبحـاث على سبيل المثال أن المنتقدين لأنفسهم لا يكونون عادة سعداء في علاقاتهـم الرومانسية، لأنهـم يفترضون أن شركائهم ينتقدونهم كمـا ينتقدون هـم أنفسهم. ظـن المـرء أن التعليقات المحايدة مقصود بها الحـط والانتقـاص يـؤدي غالـبًـا إلـى ردود فعـل شـديدة الحساسية وينشـئ صـراعـات مـا كان ينبغـي لـهـا أن تنشأ. أي أن مـن ينتقد نفسه يُضعف القـرب والـدعـم فـي علاقاته الاجتماعية، مـع أنـه فـي أمس الحاجة إليهما.

كانت صديقتـي إمـلـي كذلك.كانت طويلة نحيلـة تمشي مشية خرقاء، وحييّة خجولـة كالأطفال، كانت أمهـا تتـحـرج منهـا وكـانـت تـقـول لـهـا ذلـك دائمًا، «لما تنگمشين هكذا دائمًـا فـي الزاوية؟ قـفـي معتدلة. تأدبـي. لما لا تتعلميـن مـن أخـتـك الكبيرة؟» غـدت إمـلـي راقصــة محترفة، وكان مـن أسباب هذا الاختيـار أنـهـا تـريـد تـجنـب نـقـد أمـهـا، هـل كان سهلاً عليهـا بعدمـا صـارت امـرأة جميلة رشيقة القـوام أن تـجـد حبيبًـا يمنحهـا مـا تـريـد مـن حـب وقبـول؟ لا، لـم يكـن سـهلاً. لـم تـجـد إمـلـي صعوبة في استمالة قلوب الرجـال، ولكـن كـانـت تـجـد صعوبـة فـي حـفـظ هـذه العلاقات، كانت على يقيـن مـن أنـهـا فـي نظـرهـم ناقصـة إلـى درجـة أنـهـا كـانـت تبالـغ فـي ردة الفعـل إن أحسـت مـن شـريكها إساءة صغيرة، كانـت تعـد نسيانه الاتصـال بهـا فـي اليـوم الأول مـن سـفره للعمل دليـلاً عـلـى أنـه لا يحبهـا، وكانـت تعد نسيانه الثناء على فستانها الجديد دليلاً علـى أنـه يـراهـا قبيحـة. هذه المبالغات كانت تحمـل شركاءها على هجرها، وهـذا زاد خوفها مـن الرفض.

حيـن يُقبـل المنتقـد لنفسـه عـلـى اختيار شريك الحيـاة فـإن أعـدى عدو له عـادة هـو نفسـه، يـرى (بـل سـوان) الباحـث فـي علـم النفس الاجتماعـي أن النـاس يريدون أن يعرفهـم الآخـرون وفـق آرائـهـم فـي أنفسهم، وهـذا يـُعـرف بنظريـة التحقـق. يرغبـون فـي التحقـق مـن آرائهـم فـي أنفسـهـم لأن ذلـك يضفي على حياتهـم بعـض الاستقرار. ويظهـر بـحـث (بـل سـوان) أن الذيـن ينظرون إلى أنفسـهـم نـظـرة دونيـة يصنعـون مـثـل ذلـك يسعون إلى مصاحبـة مـن يـعـرض عنهـم لأن هـذا مـا تألفـه نفوسـهـم وترتـاح لـه.

أنـت الآن تعلـم لـمـاذا لا تحسـن -أنـت أو صديقـك العظيـم الناجـح- اختيار شـريك الحيـاة المناسـب. ينجـذب المنتقـدون لأنفسـهـم عـادة إلـى شركاء منتقديـن يؤكـدون لـهـم مـا يـحسـون بـه مـن نقـص وعيـب. فيقيـن الرفض أفضـل عندهـم مـن الجهـل بـمـا قـد يـحـدث في مستقبل الأيـام. هـم لا يعرفـون غيـر الـرفـض. وأنـا مـع الأسـف أعـرف هـذا الأمـر حـق المعرفـة.

 

كرستين نِف

من كتاب "العطف على النفس"