الخروج عن القطيع

مشير سمير ٢٤ أكتوبر ٢٠٢٢

يقول الرسول بولس لأهل روما: "لا تشاكلوا conform(تتكيفوا مع/ تتوافقوا ) هذا الدهر(العصر/ العالم). بل تغيروا transform عن شكلكم" (رو12: 2)

وهو في عبارته تلك التي تبدو وكأنها بسيطة يضعنا أمام مشكلة فلسفية سيكولوجية وفوق ذلك روحية عويصة. فكيف يقف الإنسان وحده في مقابل تيار معاكس؟ كيف يقاوم الفرد الدفع القوى نحو التشكل بالمجتمع المحيط ويظل محتفظاً باختلافه وفرديته؟

يبدو أن هذه الأسئلة تضع أمامنا واحداً من أصعب التحديات على الإنسان سواء في مجتمعنا المعاصر أم في كل العصور، إنه تحدى السير عكس التيار أو حتى وقوف الفرد صامداً محتفظاً بذاته المتفردة أمام قوة ضغط المجموع. فالمجموع له قوة هائلة في الضغط على الفرد من أجل الامتثال والانصياع لما قد تعارف عليه هذا المجموع. ويستمد المجموع قوته الضاغطة هذه من أمر أساسي، وهو القبول أو الموافقة اللذان يمنحهما المجموع للفرد حين يتماثل مع الآخرين في مقابل الرفض والنبذ للفرد المختلف وغير المتماثل. وإذا قمنا بتحليل قوة القبول والموافقة من المجموع نجدها في جوهرها تعبر عن الاحتياج الأساسي الهائل لدى الإنسان للأمان، والذي حين ينشد الفرد تسديده من خلال الجماعة فإنه يخبرنا دون ما يدرى أنه يفتقر لهذا الإحساس بالأمان ولا يجده في داخله! إن ذلك يعنى أن هذا الإنسان في الواقع يشعر بالتهديد في ذاته ولا يجد الأمان والسلام في داخل نفسه، ولذلك فإن إختبار هذا الإنسان للوحدة والانعزال هو أمر مرعب لا يطيق احتماله. ومن هنا يلجأ الفرد إلى التماثل مع الآخرين ويشعر بالدفع القوى نحو التشكل بهم فقط من أجل الحصول على القبول والموافقة اللذين يمنحانه إحساساً خارجياً بالأمان، إذ أنه قد فشل في الحصول عليه داخلياً.

يخبرنا عالم النفس الشهير إبرا هام ماسلو أن إحدى سمات الشخص الناضج المحقق لذاته هي مقاومة التشكل بالبيئة المحيطة. وهنا نفهم أن اختلاف الفرد وعدم مشاكلته للبيئة هو في الواقع ليس إلا ثمرة لنضوج الإنسان وإدراكه لذاته. وهو ما يجعل الإنسان يستطيع أن يقف وحده دون أن يشعر بالتهديد.

 دعونا نستمع إلى ما يقوله الطبيبان ماي ، ويالوم في هذا الشأن:

"يحس بعض الأفراد عندما ينفردون بأنفسهم بالهلع الناجم عن انحلال حدود الذات Dissolution of ego boundaries (والتي قد انحلت في الالتحام بالآخر طلباً للأمان). يبدأ هؤلاء الأفراد يشكون في وجودهم الخاص ويعتقدون أنهم لا يوجدون إلا في حضور شخص آخر، أي لا يوجدون إلا بقدر ما يستجيب لهم فرد آخر ويفكر بهم."

" أن تكون كأي فرد آخر - أن تمتثل وتخضع وتساير في الملبس والحديث والعادات، … ألا تكون لك أفكار خاصة أو مشاعر مختلفة - كل ذلك من غايته ومبتغاه أن ينقذ الفرد من عزلته."

 إلا أنه لابد للفرد في أوقات كثيرة من حياته أن يقف وحده، وأن ينفصل عن المجموع لكي ما يتحد بخالقه كإنسان مستقل مخلوق على صورته حتى يتمثل به ويتماثل معه. وهى الحالة الوحيدة التي تخرج الإنسان حقيقة من عزلته وتمنحه الأمان والسلام الداخلي الحقيقيين. فلا يحتاج هذا الإنسان فيما بعد إلى مشاكلة المجتمع والتماثل مع الآخرين، بل على العكس فإنه هو من يُعَلِم المجموع ويعطيهم القدوة والمثال نحو إيجاد الذات والحصول على الأمان الداخلي دون الاحتياج إلى الحصول على الموافقة والقبول من الآخرين كشرط لتحقق هذا الأمان. وبالتالي يجد الإنسان ذاته ويدركها ويتمسك بفرديته واختلافه.

 لقد سمعنا جميعنا مقولة القديس أثناسيوس الرسول حين قالوا له: "إن العالم كله ضدك يا أثناسيوس"، فأجابهم قائلاً: "وأنا ضد العالم". هل كان القديس أثناسيوس مصاباً بجنون العظمة Paranoid؟!

 ماذا إذا خرج أحدهم إلينا اليوم قائلاً بأن الأرض مسطحة وليست كروية! ألا نتهمه بالجنون والمروق؟ إن هذا تماماً كان وضع العالم الفلكي جاليليو في ذاك الوقت حين خرج في مواجهة الجميع بما هو يعد جنوناً ومروقاً منه أنذاك، إذ قال بأن الأرض كروية وتدور حول الشمس وليس العكس. وهكذا واجه جاليليو المجتمع بأسره ممثلاً في محكمة التفتيش متهماً بالجنون والهرطقة. فهل كان جاليليو كذلك؟ وهل كان القديس أثناسيوس مريضاً بجنون العظمة؟

إن الإنسان الذي يتمتع بالأمان والسلام الداخلي الحقيقيين إنما نجده يشعر في داخل نفسه بالثبات حتى أنه يستطيع عند اللزوم ليس فقط أن ينفصل عن المجموع بل أن يواجه المجموع بتشوهه ويقف منفرداً في مقابله كما لو كان هو الوحيد المحق.

 يقول ديتريش بونهوفر الكاتب المسيحي الألماني المعروف والذي لاقى مصرعه على يد الحكم النازي الذي نفذ فيه حكم الإعدام نتيجة لمناهضة بونهوفر له كإنسان مسيحي يتمسك باختلافه مع هذا النظام، يقول لنا بكل جسارة وتحدى: "إن رفضت أن تكون وحدك فأنت ترفض دعوة المسيح لك".

 ولا شك أن بونهوفر قد إختبر هذا النوع من الوحدة والانفصال بالسجن، وأن يكون وحده تماماً في مواجهة نظام كامل. ولكننا نرى إيمانه وثباته الداخليين يمكناه من الوقوف في هذا الاختبار الصعب للوحدة. فقد قال بونهوفر حين اتُهم بعدم ولائه لبلاده: "نعم أنا ألماني، ولكنى أولاً مسيحي".

 وهنا نرى أن بونهوفر لم يخشى رفض المجموع ونبذه له الذي وصل إلى حد القتل، إذ أنه كان يتمتع بالأمان الداخلي، فلم يكن محتاجاً إلى الحصول عليه عن طريق قبول وموافقة المجموع .

 ومن الجدير هنا بالذكر أن شيئاً مثل هذا لم يكن قد نجح فيه بعد جبار البأس جدعون حين نفذ أمر الرب بهدم مذبح البعل، إذ نراه يقوم بذلك ليلاً خوفاً من أن يعلم بيت أبيه وأهل مدينته بأنه هو من حطم مقدساتهم وخرج عن الطوع (قض6: 27-30). إلا أنه رغم ذلك لم يخجل الكتاب من أن يدعوه جبار البأس بسبب طاعته.

إن إدراك الإنسان لهويته الحقيقية وإيمانه بتفرده هو الأمر الوحيد الذي يجعل منه صاحب فكر خاص وفلسفة خاصة يستطيع أن يعلمها للمجتمع، ولكن إن ضاعت هوية الإنسان الخاصة وفُقِد التفرد والاختلاف انحل المجتمع وأضطرب. فاختلاف الأفراد واحد من أهم حيثيات نضوج المجتمع كما يخبرنا د. زكي نجيب محمود حين يقول:

"إن المثل الأعلى لحياة المجتمع هو أن يكون لكل فرد طابعه الخاص الذي يتميز به دون سائر الأفراد، وأن يختلف بصوته (برأيه) ما شاء له فكره أن يختلف. لأنه إذا تشابه فردان من البشر تشابهاً كاملاً كان أحدهما زائدة لا مبرر لوجودها، ولكن شريطة أن يجئ اختلاف الأفراد مماثلاً لاختلاف الآلات الموسيقية مع مختلف العازفين في سيمفونية واحدة".

 وهنا نرى أن تماثل الفرد التام للمجموع، بجانب أنه تعبير عن فقدان الهوية والأمان الداخلي فإنه يصنع تشوهاً ومرضاً خطيراً في الإنسان وبالتالي في المجتمع. وهذا المرض هو فقدان الأصالة، أي أن يصير الشخص نسخة مكررة في تطابق رتيب، مما يفقد الحياة سمة الخلق والإبداع أو بالأحرى يفقد الوجود معناه.

 يقول د. أنطوني ستور في كتابه "الاعتكاف عودة إلى الذات":

 "عندما يكون الحفاظ علي التماسك الاجتماعي هو الشغل الشاغل للمجموعة، فإن الأصالة قد تخنق. إن الأصالة تتطلب أن يكون المرء جريئاً بدرجة كافية بحيث يذهب إلي ما هو أبعد من نطاق المعايير المقبولة. وهذا يتضمن في بعض الأحيان فهم الآخرين له بطريقة خاطئة أو أن يصير منبوذاً من أقرانه وكلما كان المرء أقل اعتماداً علي الآخرين وأقل ارتباطا بهم، فإنه يجد من الأسهل عليه أن يضرب صفحاً بالمتعارف عليه. والواقع أن المجتمعات البدائية تجد أن من الصعب الإغضاء عن القرارات الفردية أو التباينات في وجهات النظر. و لقد قام برنو بتلهيم Bruno Bettelheim بدراسة المراهقين الإسرائيليين الذين تربوا في الكيبوتس (مزارع جماعية يهودية) ووجد أن القيمة العليا المنوطة للمشاعر الجمعية المشتركة بين أفرادها كانت متسمة بالعداء للإبداع."

 "إني أعتقد أنهم يجدون من المستحيل تقريباً أن يكون للمرء رأى شخصي عميق يختلف عن رأى المجموعة، أو أن يعبروا عن أنفسهم في كلام مكتوب يتصف بالإبداع . وليس ذلك بسبب كبت المشاعر فحسب، بل لأن ذلك قد يعمل علي تحطيم الأنا. فإذا كان الأنا الشخصي هو أنا المجموعة، إذن يكون وضع الأنا الشخصي الخاص ضد أنا المجموعة بمثابة خبرة مهلكة. وعندئذ يحس الأنا الشخصي بأنه ضعيف جداً بحيث لا يستطيع الصمود عندما يكون أقوى جانب فيه - وهو الأنا الجمعي - معرضاً للضياع".

 واجهت أليصابات أم يوحنا المعمدان هذا الضغط القوى للمجموع حين أرادت أن تسمى ابنها يوحنا، وهو الأمر الذي كان يعد خروجاً عن المألوف ومخالفة للسائد في هذا المجتمع. فكان الجمع يخبرها أنه لم يطلق أحد من عشيرتها مثل هذا الاسم على أبنائه من قبل، فهم لابد أن يسمونه على اسم أبيه كما هو السائد في هذا المجتمع. ولكنهم قد صُدموا وتعجبوا من مخالفة أليصابات وزوجها لرأى المجموع. إن أليصابات وزكريا خرجا عن القطيع وبهذا تمما مشيئة الله (لو 1: 57-63).

 حين خرج أبونا إبراهيم من أرضه وعشيرته كما دعاه الله، كان هذا أكبر ضروب التحدي للإنسان. إذ أنه في هذه الحضارة أن يخرج فرد ما من إطار العصبية القبلية للمجتمع البدوي ويخالف مسيرته مستقلاً بذاته، فهذا يعنى له ليس مجرد أن يكون منبوذاً ومرفوضاُ كما لو كان مختلاً، ولكن ذلك يعنى أيضاً أن يكون متروكاً وحده تماماً منعزلاً وبلا أي حماية أو سند في بيئة برية عليه فيها أن يواجه قسوة الحياة بمفرده، حتى أنه قد يتعرض للهجوم ليس فقط من الغريب بل من عشيرته أيضاً التي انفصل عنها وصار كالغريب بالنسبة لها.

 دعونا ننظر أيضاً إلى تلك الواقعة الكتابية الأخرى حين تقدم التلاميذ إلى المسيح إذ رأوا - على ما يبدو في نظرهم - أنه قد تمادى في مخالفته ومواجهته للمجموع حتى خرج عن الحدود، فاقتربوا إليه قائلين: "أتعلم أن هذا القول قد أثار استياء الفريسيين ؟" (مت 15: 12 كتاب الحياة).

فماذا كان على يسوع عندئذ، هل خشى من استياء الفريسيين وأصلح موقفه خوفاً من فقدانه لقبولهم وموافقتهم؟! إن ما تخبرنا به الأعداد التالية لهو على العكس تماماً ! إنه أمر يصدمنا جميعاً، فعلى عكس التوقع أكد المسيح وعيه وقصده لمواجهة ومخالفة القطيع على الملأ ومن دون تحفظ، إذ تمادى قائلاً: "كل غرسة لم يغرسها أبى السماوي لابد أن تقلع. دعوهم وشأنهم، فهم عميان يقودون عمياناً".

 لقد كان يسوع يعرف من هو، كان على وعى تام بهويته وبحقيقة ذاته، ولذا لم يكن حريصاً كل الحرص على الحصول على موافقة وقبول المجموع، إن ذلك لم يكن يعنى له مسألة مصيرية.

 وفى نفس الإصحاح يخبرنا الكتاب أن التلاميذ كانوا يتعلمون من المسيح هذا النهج المتفرد، إذ أتى الكتبة والفريسيون قائلين للمسيح: "لماذا يخالف تلاميذك تقاليد الشيوخ؟" (مت 15: 2 كتاب الحياة).

 يخبرنا التفسير التطبيقي في تعليقه على هذه الآية قائلاً: " لنحذر الوقوع في شرك الاعتقاد بأنه حيث أن تقاليدنا ظلت تُمارس سنين عديدة ، فلابد أن توضع موضع التقديس".

ترى هل نستطيع اليوم أن نمتلك هذه الروح الحرة المتفردة في مواجهة تقاليد المجموع؟! إننا للأسف لا نستطيع في كثير من الأحوال - حتى ونحن مؤمنون - مخالفة تقاليد بالية وضعها المجتمع الفرعوني الوثني أو المجتمع القبّلي الجاهلي من آلاف السنين ولا زلنا نمتثل إليها اليوم جيلاً بعد جيل خوفاً من الرفض والنبذ من الآخرين. يا لنا من مجتمع مكون من أفراد بلا هوية وبلا أمان داخلي!!

 إننا نشبه دودة القز Caterpillar التي يظل أفرادها يتبعون بعضهم البعض في حلقة مفرغة وبلا نهاية بحثاُ عن الغذاء، حتى تهلك جميعها والغذاء أقرب ما يكون في منتصف هذه الدائرة. ذلك لأن أي منها للأسف لم يستطع أن يكسر الدائرة ويختلف عن القطيع.