عبقرية التفرد

جبران خليل جبران ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

وأقبلت علي المكان ذات مساء عاصفة هائلة، فدخل المصطفي وتلاميذه التسعة بيته، وتحلقوا حول النار ثم لبسوا ساكنين صامتين.
حينئذ قال واحد من تلاميذه: "أنا وحيد يا سيد وسنابك الزمن تقرع بشدة فوق صدرى"
فأنتصب المصطفي واقفاً وسطهم، وقال بصوت يشبه صوت ريح عاتبة: "وحيد! وماذا في ذلك؟ لقد جئت وحيداً، ووحيدا سوف تمضى خلال الضباب".
"إشرب إذا كأسك وحيداً، وفي صمت، فلقد أعطت أيام الخريف شفاها أخرى، كؤوسا أخرى، ملأتها خمراً معتقة ومرة، كما ملأت كأسك إيضاً".
"أشرب إذاً كأسك وحيداً، رغم إنك تتذوق فيها دمك ودموعك. ثم بارك الحياة من أجل عطية الظمأ. فبغير العطش، لن يكون قلبك الإ شاطيء بحر مجدب لا أغنية له، لا مد فيه ولا جزر".
"أشرب كأسك وحيداً، وأشربها أيضاً مبتهجاً. ارفعها عالية فوق رأسك، ثم أشربها بنهم، نخب أولئك الذين يشربون وحدهم".

"حدث ذات مرة أن نشدت صحبة الناس، وجلست معهم الي موائدهم، وشربت بنهم من كؤوسهم لكن خمرهم، لم ترتق الي رأسى، لا ولم تطف فوق صدرى، بل هبطت الي قدمي فحسب. أما حكمتي فقد تركوها جافة يابسة، ثم أغلقوا قلبي، ووضعوا عليه خاتماً. ولم يكن هناك غير قدمي وحدهما تسيران معهم في دروبهم".
"ومنذ ذلك الحين، لم أنشد صحبة الناس مرة أخرى، ولم أشرب معهم خمراً علي موائدهم".
" أصغ إذا إلي ما أقوله لك. أنت تقول أن سنابك الساعات تقرع بشدة فوق صدرك، فماذا تأمل غير ذلك؟ خير لك أن تشرب خمرة حزنك وحيدا لأنك حينئذ ستشرب خمرة مسرتك وحيداً أيضاً."

جبران خليل جبران
من كتاب حديقة النبي

جيد للرجل أن يحمل النير في صباه. يجلس وحده ويسكت، لأنه قد وضعه عليه."
(مراثي أرميا 3: 27،28)