الصراع والنضوج

شغل عقلك ٢٢ أكتوبر ٢٠٢٠

الصراع والنضوج

 

 

النقد هو أساس النضوج الفكري والعقلي للفرد، المؤدى لحدوث تطور حضاري وإنسانى للمجتمع.
فالركيزة الأساسية التي قامت عليها النهضة في أوروبا هي إعلاء قيمة العقل فوق كل سلطان وحرية نقد كل التابوهات المقيدة لحرية الفكر والإبداع. وقد كان لحركه الإصلاح الديني دور مبكر في إعلاء قيمة العقل وحرية الفرد في الفهم و التأويل، بعد أن اغرق الاكليروس الشعب في بركة من الجهل والعبودية لسلطانهم الوهمي الكاذب وطقوسهم الوثنية البعيدة كل البعد عن رسالة المسيح المحرر العظيم.
"إننا ينبغي أن نتعامل بجراءة مع سلطة النصوص ولا نسمح لروح الحرية أن تكون في خوف من الباباوات، ونسير بجرأة ونختبر كل ما يفعلون بإيماننا بفهم الكتاب المقدس لندرك ما يتسق مع العقيدة وما لا يتسق معها، إننا جميعا كهان ورجال دين فيجب أن تكون لدينا القوة على فحص ما هو صحيح وما هو خطا في موضوعات الإيمان أو العقيدة. لماذا نترك هذا للبابا؟" (مارتن لوثر)
"هنالك التأثير السلبي للحركة النسكية التي دخلها الكثير من التعاليم الوثنية، وقد صارت الرهبنة مؤسسة قائمة بذاتها تحكم الكنيسة من خلال الاشتراط أن يكون الأساقفة ورئيس الأساقفة من غير المتزوجين ويأتون بهم من الدير، مما جعل لهذه الحركة قوتها، ولاشك أن الحركة النسكية بكل ما تعطيه من تأثيرات نفسية وعمليات التطهير والبعد عن العالم كان لها التأثير في الفصل بين العلماني والاكليروس وتقديس الاكليروس وخاصة الرهبان مما فصل الاغلبية العظمى من المؤمنين عن العمود الفقري للكنيسة، وتركزت كل الأدوار في يد الاكليروس" (د.ق.إكرام لمعي: الوجه الأخر للكنيسة)

إن الخوف من النقد وإعلاء قيمة النقل والتسليم واعتماد التلقين كأسلوب تعليمي يؤدى إلى قتل الإبداع وتقييد حركة التطور الطبيعي للحياة نحو الأفضل و الأنسب وتكريس ثقافة التجمد و الركود وعبودية الماضي. فالمجتمع الذي يقوم بتقديس أفكار و أقوال الآباء والأجداد وتحريم وضعها تحت مجهر الفحص
واستبيان مدى صلاحيتها للبقاء في حيز الوجود وإمكانية التطبيق هو مجتمع حكم على نفسه بالموت وعلى عقول أبنائه بالعقم وهذا هو ما يحدث في مجتمعنا وبالتالي في كنائسنا. فالكنيسة والقائمين على إدارتها جزء من المجتمع (فهم لم يهبطوا من السماء) يتأثرون به ويؤثرون فيه، فالمسيح لم يطلب منا أن ننعزل ونهيم على وجوهنا في الصحراء!، بل قال لست اسأل أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير، ولكن بسبب الابتعاد عن روح الكتاب وروح رسالة المسيح المحررة صارت الكنيسة متأثرة وليست مؤثرة وصار المحدد لسلوك وحياة المسيحي ليس الكتاب المقدس أو المسيح ولكن مدى توافقه مع قيم وأعراف المجتمع (حتى وان كانت قيم قبلي عشائرية) واتفاقه مع سيرة وأقوال إباؤنا المقدسين (الفلكلورية)! (بدون مراجعه تلك السير والأقوال في ضوء العقل والكتاب القدس)
(وبخلاف امتلاء بعض السير بمفاهيم غنوسية وأحداث اسطورية، هناك شك في نسبتها لأصحابها، بل وحتى في وجودهم أصلاً)
"نجد ممارسات كثيرة يمارسها غالبية المسيحيين في مناسبات الميلاد والزواج والوفاة معتقدين أنها ممارسات كتابيه بينما في الحقيقة هي ممارسات بعضها فرعونية وبعضها يرجع للعادات والتقاليد الموروثة مثل رش الملح حول المولود وحول العروسين، كذلك عادة التالت والأربعين للمتوفى. إن الأمية الكتابية أيضا مزعجة لأنها تؤدى بنا إلى الاستسلام للخرافة وقبول العادات الضارة والموروثات الخاطئة كما هي دون نقد أو تصحيح في ضوء كلمه الله المقدسة، وبالتالي نجد أنفسنا كمسيحيين انحرفنا وبعدنا كثيراً عن كتابنا المقدس، ونكون قد كونا لأنفسنا كتاباً مقدساً خاصا بنا" (ق.ثروت ثابت: حياتنا بين العقل والعاطفة)
فنحن مرضى بتقديس كل ما هو قديم بدعوى الأصالة و الحفاظ على تراثنا المعصوم!! جاعلين من إنسان الماضي سيداً متسلطاً وحكماً على إنسان الحاضر والمستقبل!
إن الإبداع والمبدعين في كافة المجالات في مجتمعنا مقهورين، مضطهدين، يعانون من التربص بهم، مقيدين بقائمة طويلة من المحظورات الممنوع الاقتراب منها سواء بالنقد أو حتى مجرد التفكير في وضعها تحت مجهر الفحص العقلاني، إن أغلب ما يُكتب ويُمارس  ويُطبق هو عبارة عن اجترار لما  شرعه وتداوله الأولون بغض النظر عن مدى عقلانيته، واختلاف عصرنا وتطوره.
"إننا أمة مغرمة بالماضي عن جدارة وافتتان وبشكل عام  نستحضره دينياً وخطابياً وثقافياً وحتى سلوكياً، نستحضره بكل مكوناته ومحتوياته المشهدية والروائية والنقلية والشفاهية لنقيم فيه وننغلق عليه ونبنى منه حاضرنا ونتكئ عليه في مستقبلنا القريب والبعيد،... المشكلة المريعة في أن يبقى الماضي مهيمنا على الحاضر، يسلبه إرادة الحركة والتغير ويسلبه منطقية العصر ويدفع به في دائرة الانغلاق والتعصب ويلقى عليه قيوده وأغلاله." (محمود كرم: الحوار المتمدن 26\12\2006)
"أنا مندهش من عصبية المجتمع الهستيرية تجاه الاختلاف، وعدم تحمل أو التسامح مع الأخر، كل واحد منا يريد مجتمعاً كقطيع من أغنام توائم مستنسخة.... كلنا أصبنا برغبة حارقة في أن نتحول إلى آلهة مصغرة تمشى على قدمين وتهدى الناس بالعافية وتؤمن بأن رأيها هو الإيمان المطلق والصواب المطلق وكل ماعداه كفر وإلحاد." (د.خالد منتصر: صوت الأمة 14/4/2008)

إن المحافظة على القديم  سمة من السمات الاساسية للشخصية العربية، فنحن نميل إلى الثبات والاستقرار ونخاف من التجديد وقد انعكست هذه السمة على حياتنا بصفة عامة وعلى فكرنا الديني بصفه خاصة فنحن نتمسك بالأفكار التقليدية التي ورثناها بدون وقفة لمناقشتها وتحليلها على ضوء كلمة الله . نحن بحاجة شديدة إلى مراجعة تراثنا المسيحي والكنسي، وتنقيته مما علق به من أفكار (يهودية،غنوسيه،أخرى)، أفكار تدعو إلى تقديس الذل والجهل والسذاجة تحت مسمى الروحانية، وتأليه وعصمة الرعاة الدينيين تحت مسمى الطاعة، واحتقار وازدراء الجسد وتحقير رغباته بدعوة الموت عن العالم، أفكار تدعو إلى التسليم والانقياد الأعمى بدعوى الإيمان، أفكار تدعو إلى الإقلال من شان المرأة وتقييدها وتكفير كل من اختلف عنى في الفكر بدعوة الغيرة على الإيمان! وبحاجه إلى إحلال خطاب ديني يتلامس مع إنسان القرن الواحد والعشرين (وليس إنسان القرن الرابع الميلادي) خطاب عقلاني، روحي متجدد يعتمد على التساؤل والمناقشة والفهم وليس على التسليم والتلقين (وابن الطاعة تحل عليه البركة)!!!
"يجب تجديد الفكر والانفتاح على العالم والمشاركة الفعالة والخروج من شرنقة التزمت والجمود والانخراط في الغيبيات وعلى الكنيسة الآن تنقية التراث والكتب من الخرافات والمبالغات الغيبية وتأليه القديسين ....، المسيحية هي نمو في العقل وليست معجزات أو ظهورات أو نبؤات التي أحياناً ما تكون مجرد أوهام" (ماركوس ملطى عياد: الحوار المتمدن)
"يجب أن تصبح قرأتنا للكتب المقدسة وتراث الأباء الأولين قراءة غير عادية بأسلوب لا يأخذ النصوص على علاتها بل يركز على الإطار التاريخي الذي كتبت فيه وما يحتويه هذا الإطار من ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، ثم نحاول من خلالها أن نكتشف الطريقة المثلى لتطبيق هذه النصوص بطريقة واقعية تتواءم مع المكان والزمان اللذين يراد تطبيقها فيهما لتكون تجسيداً للعدالة لا تقنينا للتعسف، ولا استمراراً للظلم الملتحف بثياب الشرعية الدينية" (ق.إبراهيم عبد السيد: السلطان الكنسي)
"التعليم في الكنيسة في معظمه من جانب واحد، يعتمد على التلقين وبالتالي غاب الحوار والنقاش داخل الكنيسة مما جعل الناس تعتاد قلة التفكير فيما يسمعون، هذا علاوة على أن بعض الخدام والوعاظ اعتقدوا أن ما يقولونه هو الحق المطلق الذي لا يقبل نقاشاً سواء من قريب أو من بعيد، وإذا ما حاول أحد المستمعين أن يسأل أو يستفسر عن شئ قد يُتهم بالعصيان والخروج عن الدين والعقيدة الصحيحة والبعض الأخر تبنى أسلوب لا تناقش ولا تجادل يا أخ." (ق.ثروت ثابت: حياتنا بين العقل والعاطفة)
"لابد من تغيير لغة الخطاب الديني حتى يساعد على إعمال العقل وليس تغييبه. إننا كثيرا ما نقدم عظات مسكنة ومخدرة للناس تعلمهم أن يعيشوا حياة التواكل والكسل، والله هو الذي يتولى الامور بطريقة معجزية وما عليهم إلا أن يقفوا مكتوفي الأيدي. وكثيرا ما تقدم منابرنا عظات تحوى عينات تدعو الناس إلى الهروب من الواقع ليحلقوا في عالم آخر من الغيبيات.... إن مشكلات القرن المقبل تحتاج لمفكرين مبدعين، الألفية الثالثة تحتاج لقادة ورعاة أصحاب فكر مبدع يتمتعون بقوة الحجة والبرهان عميقو الفكر واسعوا الإطلاع نافذو البصيرة حتى يكونوا قادرين على مواجهة التحديات المقبلة." (ق. رفعت فكرى)

لن يحدث تقدم ونهوض سواء على المستوى الفردي أو المجتمعي بدون صراع فكرى وجدل حر عقلاني ونقد غير مشروط. "إن التغيير المبدع المتمرد العقلاني الناقد المغربل للسلف الذي يناقش الثوابت والمسلمات والبديهيات، لهو المناعة الحقيقية للأوطان والتي تقوى مع الزمن وتبنى شعوباً ناضجة واعية مستنيرة متحضرة،وليس أطفالاً قصرا أو مجتمعات (ناقصة عقل ودين) تحتاج حماية ومنعاً وتسلطاً وقهراً." (د.منى حلمي: روزاليوسف)
بل أن الحياة ذاتها عبارة عن صراع، فالإنسان منذ أن وُجد وهو يحيا في صراع مع قوى الطبيعة ومع الكائنات الأخرى بل وأيضاً مع نفسه. ولكن مع اختلاف أنواع وأشكال الصراع التي خاضها الإنسان ومازال يخوضها، أرى أن أكثرها تأثيراً في حياته هو الصراع الفكري لأنه المحدد لردود أفعاله تجاه ما يمر به من مواقف وما يطرأ عليه وعلى العالم حوله من تغير. فأفكار الإنسان هي المحددة لأرائه عن  نفسه و الحياة وبالتالي لسلوكياته وأفعاله. إن الصراع الفكري هام وأساسي لحدوث نمو عقلي وصقل وبلورة للقاعدة الفكرية للإنسان.
فالعقل الذي لم يمر يوما بمرحلة من الصراع الفكري هو عقل راكد متبلد غير باحث عن الصواب قيدته قدسيه الاعتقاد المتوارث والخوف من الشطط والخروج عن إجماع القدماء و ثوابت المجتمع.
(فالتسليم هو مشنقه العقل)
وترجع أهميه الجدل وصراع الأفكار أن من خلال الصراع الناشئ عن صدام الفكرة الأولى (القديمة أو السابقة) مع الفكرة الثانية (المختلفة) يحدث شئ من ثلاث أما (إحلال الثانية محل الأولى) أو (بقاء الأولى ورفض الثانية) أو (نشوء فكرة ثالثة إما مزيج من الأولى و الثانية أو فكرة جديدة بالكلية) ولكن يوجد العديد من الأسئلة الهامة التي تطرح نفسها، والتي من الصعوبة البالغة الإجابة عنها وهى (كيف أو متى يبدأ الصراع)، (هل لابد من وجود قاعدة فكرية ارتكازية للصراع الفكري، أم يجب دخول الصراع بعقلية مجردة خالية من أي تحيز أو اعتقادات مسبقة؟)، (وإن كانت الإجابة هي حتمية العقلية المجردة، فكيف نخلو من التحيز وهو جزء من طبيعتنا الانسانيه؟)، (وهل توجد مرحلة معينه ينتهي عندها الصراع أم أن توقفه مرتبط بتوقف دقات قلب الإنسان؟)
"إذا أردت أن ترتاح فاعتقد، إما إذا أردت أن تبحث عن الحقيقة فاسأل" (نيتشه)
 


شغل عقلك

القاهرة