في سبيل الحكمة (حوار ذاتي للقديس أغسطينس)

القديس أغسطينوس ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

(عزيزي المتصفح: هذا الاقتباس ليس بطويل وإنما ذو طبيعة فلسفية صعبة، فربما تود الاحتفاظ به على جهازك لمزيد من التأمل في وقت لاحق)

 

العقل: إنما أسألك عن الأصدقاء هؤلاء الذين تحبهم بهذا المقدار، لماذا تريد لهم أن يعيشوا ويعيشوا معك؟
أوغسطينس: للبحث معاً، بقلب واحد، لكي نعرف أنفسنا ونعرف الله؛ وعلى هذا النحو، فأول من يسعد بوجود الحقيقة يقود إليها الآخرين دون عناء.
العقل: ولكن إذا رفض أصدقاؤك القيام بذلك البحث؟
أوغسطينس: أقنعهم بذلك.
العقل: وإن لم تنجح، إما لأنهم يتصورون بأنهم قد اكتشفوا ذلك أو لأنهم ظنوه شيئاً مستحيلاً أو لأن لديهم هموماً وأموراً أخرى تمنعهم من القبول بذلك المشروع؟
أوغسطينس: نكون كما نقدر أن نكون مع بعضنا بعضاً؟
العقل: أما إذا كان حضورهم مناهضاً لأبحاثك أفلا تتألم؟ ألا ترغب في فصلهم عنك إذا لم يقدروا على أن يغيروا ما هم به أو عليه؟
أوغسطينس: أنا من رأيك.
العقل: هذا يعني أنك تريد أن يعيشوا أو يكونوا معك، ليس حباً لهم، بل طلباً للحكمة.
أوغسطينس: أوافق كلياً على ما تقول.
العقل: لو كانت حياتك الشخصية مانعاً لك من امتلاك الحكمة، فهل تحافظ عليها؟
أوغسطينس: أهرب منها عمداً.

العقل: إن ما نسعى إليه الآن هو كيف تحب الحكمة. أنت تريد أن تراها، وتمتلكها حرة من كل حجاب، عريانة، إن تجرأت على القول، بنظرات وعناقات طاهرة لا غبار عليها ولا لوم! إنها حظوة لا تسمح بها إلا لعدد قليل ممن اختارتهم لها أحباء. لو أحببت امرأة جميلة لحق لها أن ترفضك إن وجدتك ميالاً إلى أخرى. هل تنكشف لك الحكمة يا ترى على جمالها النقي الطاهر لو عرفت أنها ليست حبيبتك الوحيدة.
أوغسطينس: آه! ولم هذا التأخير الذي يشق علي كثيراً؟ ولم هي هذه المواعيد التي تعذبني؟ أجل، لقد بينت أني لا أحب سواها أن كان الحب لشيء آخر مغايراً لحبها فهذا لا يعني أنني أحبها! على أنني لا أحب إلا الحكمة لذاتها: أما الباقي كالحياة والراحة والأصدقاء فإني لا أريده ولا أخشى أن أخسره إلا من أجلها. وما هي الحدود التي تضعها محبتي لهذا الجمال؟ أنا لا أحسد الآخرين عليها، ولكني أحث أكبر عدد من الناس، ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، على السعي معي إليها وامتلاكها والتمتع بها واعتبرهم من أعز أصدقائي إذا تقاسمنا على السواء حبها!
العقل: هكذا يجب أن يكون محبو الحكمة! وهكذا تريدهم تلك الصديقة التي بها يتحدون بالعفة دون أية وصمة. آخرون يجرحهم بهاء هذا الجمال الذي يتوقون بشدة إلى النظر إليه، وإذ لا يستطيعون الصمود أمامه يقعون بسهولة في الظلمات، حتى لو اعتبروا بصحة جيدة فمن الخطر أن نظهر لهم ما ليسوا قادرين على النظر إليه. من الضروري أن ندربهم في بداية الأمر ومن مصلحتهم أن يتغذى الحب فيهم قبل أن نكفيهم. ومن ثم يقدم إليهم أولاً أشياء ليست نيرة بذاتها بل بواسطة النور الذي يسلط عليها؛ مثلاً قطعة قماش وحائط إلخ …. ومن ثم تقدم الأشياء التي لا تأخذ من ذاتها بل من النور سطوعاً أوسع كالذهب والفضة إلخ… وهو سطوع لا يسعه أن يجرح العيون. ومن ثم نحاول، بتؤدة، أن نبين لهم النار ثم الكواكب كالقمر مثلاً وبزوغ الفجر وطلوع النهار. وتتوالى التمارين، بسرعة مختلفة، فتكون إما متلاحقة أو بالتخلي عن هذا التمرين أو ذاك، بحسب قدرة كل واحد، وصولاً إلى التمرين الأخير الذي يعود على النظر إلى الشمس بلا وجل وبشيء من الانشراح. ذاك هو الأسلوب الذي يتبعه الأساتذة المدربون مع العقول التي تهوى الحكمة والذين تفتحت عيونهم ولا تزال بحاجة إلى الحدة. هذا هو واجب المعلم الصالح الذي لا يوفر قاعدة وصولاً إلى الحكمة. أما الوصول إليها، بدون هذه الطريقة، فهو أمر منوط بالحظ. حسبنا اليوم ما كتبناه، على ما يبدو لي، مراعاة لصحتك.

أوغسطينس: بحقك علمني الطريقة إن استطعت. هيا، خذني أنى شئت، كما تشاء وكيفما شئت. أفرض علي من الامتحانات أشدها صعوبة وضراوة، شرط أن تكون في متناولي، إن أكدت لي بأنها توصلني إلى الهدف الذي أحلم بالوصول إليه.
العقل: لي مبدأ واحد أعطيكه؛ ولست أعرف غيره وهو الهروب التام من جميع المحسوسات، وهو أن نكون حذرين ما دمنا نحمل هذا الجسد الأرضي، من أن يشل دبقه حركة أجنحتنا لأننا نحتاج إليها سليمة وممتازة لننطلق من هذه الظلمات إلى ذلك النور، ويظهر لأولئك السجناء إلا إذا تكسرت أو حلت تلك السلاسل التي تقيدهم ليتمكنوا من الانطلاق إلى الجو الذي يسطع فيه ذلك النور، وإذ تصبح أهلاً لأن تتحرر من أهوائك الأرضية، صدقني بأنك، للحال، وفي الثانية عينها، سوف ترى ما تريد.
أوغسطينس: متى يصير ذلك؟ أسألك عنه لأني أشك في قدرتي على الوصول إلى ذلك الاحتقار الكلي، قبل أن أرى ذلك الخير الذي لا يدانيه خير.
العقل: ذاك ما تستطيع أن تقوله أيضاً عيننا الجسدية: "لن أكف عن محبة الظلمات إلا عندما أرى الشمس." ويبدو أن هذا هو أيضاً من النظام إنما بشكل آخر. العين تحب الظلمات لأنها مريضة ويجب عليها أن تكون سليمة وبصحة جيدة لترى الشمس. غالباً ما تنخدع النفس حين تظن أنها بصحة جيدة وتفاخر بذلك؛ وبما أن نظرها قاصر عن أن يرى، تعتقد بأن من حقها أن تتشكى. إنما الجمال الكلي يعرف متى يجب أن يظهر: دوره مماثل لدور الطبيب، ويعرف بشكل أفضل من يتمتعون بالصحة حقاً من أولئك الذين لا يدرون ويخضعون للعلاج. أما نحن فنظن أننا نرى المسافة التي قطعناها من اللجة؛ أما القعر الذي كنا فيه غارقين وإليه وصلنا، فلا يحق لنا أن نتخيله و لا أن نستشعره، حتى إننا نظن، إذا قارنا بين ما كنا عليه من خطر وألم زال، بأننا في صحة جيدة.
أوغسطينس: بحقك، إن استطعت أن تعمل شيئاً لأجل اسمي فحاول أن تقودني على طريق مختصر؛ قربني قليلاً من ذلك النور الذي يجب أن يسمح لي بالدنو من بهائه ما أحرزت من تقدم. إجعلني أخجل من توجيه عيني إلى تلك الظلمات التي تخليت عنها. ولكن هل لي أن أقول إنني قد تخليت عنها في حين عماي لا يزال يجد فيها بعض الجاذبية؟
خذني، بحقك؛ خذني حيثما تشاء.
العقل: حسناً، تقول إنك تريد أن تعرف النفس والله؟
أوغسطينس: هذا هو كل مناي.
العقل: لا شيء أكثر؟
أوغسطينس: لا شيء على الإطلاق.

القديس أغسطينوس
من كتاب "محاورة الذات"