الخطوط التوجيهية للصلاة

الأب هنري نووين ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

أتصور أنه بالإمكان أن نضع بعض الخطوط التوجيهية للصلاة. فالنظرة الدقيقة إلى حياة أناس، كانت الصلاة في حياتهم "الأمر الضروريّ الوحيد" (راجع لوقا 10: 42)، توضح لنا أنّ هناك ثلاث قواعد، يلزم اتباعها دائماً: قراءة كلام الله بتأمل، إصغاء صامت إلى صوت الله، وإطاعة المرشد الروحي بثقة. إنه عسير جداً وشبه مستحيل أن نجد طريقنا الخاص إلى الله بدون الكتاب المقدّس والوقت الصامت والشخص الذي يوجّهنا.

في المقام الأول، علينا أن ننتبه بعناية إلى كلام الله كما هو مدوّن في الكتب المقدسة. فقد اهتدى القّديس أغسطينوس عندما استجاب لكلمات طفل يقول: "خذ واقرأ، خذ واقرأ". وعندما أخذ الكتاب المقدس وبدأ يقرأ في الصفحة التي صادفته عند فتح الكتاب، شعر بأن الكلمات التي قرأها كانت موجّهة مباشرة إليه. فقراءة الكتب المقدسة هي الخطوة الأولى التي يجب اتباعها في سبيل انفتاح أنفسنا على دعوة الله. وقراءة الكتب المقّدسة ليست، كما قد يبدو، هينة، إذ نميل في عالمنا الأكاديميّ، إلى إخضاع كل ما نقرأه، وبدون استثناء، للتحليل والمناقشة. ولكن كلام الله يجب أن يقودنا أولاً إلى المشاهدة التأملية والتأمل الذهنيّ. فبدلاً من أن نفكك الكلمات، علينا أن نجمعها في أعماق نفوسنا، وبدلاً من أن نتساءل عن رضانا أو عدم رضانا على الكلمات، علينا أن نتساءل عن الكلمات التي تخاطبنا مباشرة وترتبط بقصتنا الشخصية التي تمسنا جداً؛ وبدلاً من أن نفكر في الكلمات، كموضوعات يمكننا استخدامها في حوار ممتع أو في دراسة تحليليّة، علينا أن نكون مستعدّين لجعلها تخترق الزوايا الأكثر خفية من قلوبنا، فتصل إلى حيث لم يسبق أن دخلتها أيّة كلمة. عندئذ، وليس قبل ذلك، يصبح بالإمكان لكلام الله أن يثمر كالبذرة التي تزرع في التربة الغنية، وعندئذ يصبح بإمكاننا أن "نسمع ونفهم حقّاً". (متى 13: 23)

ثانياً، إننا بحاجة من كل بدّ، إلى وقت هادئ، نقضيه في حضرة الله. بالرغم من رغبتنا في تخصيص كل وقتنا لله، فإن النجاح لن يحالفنا أبداً إذا لم نخصّص لأجل الله وله وحده، وقتاً محدّداً، أدقيقة كان ذلك أو ساعة أو نهاراً أو أسبوعاً أو شهرا أو أيّة مدة من الزمن. ويتطلب ذلك كثيراً من التدريب والمجازفة، إذ يتهيّأ لنا دائما بأنّ لنا مزيداً من العمل المُلحّ، ويبدو لنا غالباً أنّ مجرد الجلوس والاسترخاء بدون أيّ عمل سيكون لنا سبب انزعاج أكثر منه مساعدة. لكن، في ما يخص الصلاة في عمقها، لا بدّ لنا من أن نكون في حضرة الله صامتين وبلا نفع. وفي أول الأمر تكون غالباً أصواتنا الذاتية الباطنية جامحة ومدويّة، فنسمعها أكثر مما نسمع صوت الله، ويصبح من الصعب أحياناً تقبل صوت الله. ونكتشف، تدريجياً وببطء شديد، أن وقت الصمت يهدئنا ويعمّق إدراكنا أنفسنا والله، وسرعان ما نصبح متحسّرين على الأوقات التي كنا محرومين فيها من الصمت. وقبلما نفقه تماماً ما يجري لنا تنشأ في أعماقنا قوة دافعة، تسحبنا أكثر وأكثر نحو الصمت، وتقربنا من تلك النقطة الهادئة حيث يكلمنا الله.

إنّ قراءة الكتب المقدسة بتأمّل ووقت الصمت مرتبطان كثيراً بعضهما ببعض. فكلام الله يسحبنا نحو الصمت، والصمت بدوره يجعلنا ننتبه إلى كلام الله. وكلام الله يخترق كثافة ثرثرتنا ويدخل المركز الصامت في قلوبنا، كما أنّ الصمت يفتح فينا تلك الفسحة حيث يمكننا أن نسمع كلام الله. وبدون قراءة كلام الله يصبح الصمت بالياً، وبدون الصمت يفقد كلام الله قّوته الخلاقة. وكلام الله يؤدي إلى كلام الله. أخيراً، يُولد كلام الله في الصمت، والصمت هو الجواب الأعمق عن كلام الله.
ومن ناحية أخرى، فإن كلام الله والصمت يحتاجان كلاهما إلى توجيه، إذ كيف نعرف أننا لا نخدع أنفسنا ولا نختار الكلمات التي هي أكثر انسجاماً مع أهوائنا، ولا نستمع فقط إلى صوت خيالنا الذاتي؟ فقد استشهد الكثيرون بالكتب المقدسة وسمع الكثيرون أصواتاً ورأوا في الصمت رؤى، لكن لم يجد إلا القليل طريقهم إلى الله. فمن يستطيع أن يكون قاضياً في وضعه الذاتي؟ ومن يستطيع أن يقرر بما يخص مشاعره ونظراته الدينية ويصرح بأنها تؤدي به فى الاتجاه الصحيح؟ إن إلهنا أكبر من قلوبنا وأفكارنا الذاتية، لكننا من ناحيتنا، نميل بكل سهولة إلى تحويل رغبات قلوبنا وأفكار عقولنا إلى إرادة الله. لهذا، فإننا بحاجة إلى موجه يوجهنا ويرشدنا ويساعدنا على التمييز بين صوت الله وكل الأصوات الأخرى، التي تصدر من بلبلتنا الذاتية ومن القوى المعتمة التي تفوق كثيراً إمكانياتنا، للتحكم فيها. نحن بحاجة إلى شخص يشجعنا عند التجربة والشعور بالانسحاب والفشل وترك كل شيء، ويثبط همتنا عند تحركنا بتهور في اتجاهات غامضة، وعند تسرعنا بغرور نحو هدف ضبابي. ويستطيع أخيراً أن يقترح علينا زمن القراءة والصمت والتأمل، والإجراء الذي يمكننا اتباعه عندما يصبح الصمت سبب خوف كبير وسلام قليل.

إن ردة الفعل الأولى وشبه العفوية على فكرة الموجه الروحي هي صعوبة إيجاد الموجهين الروحيين.ومع أن هذه الصعوبة واردة فإن عدم وجود الموجهين الروحيين يرجع، جزئياً على الأقل، إلى أننا لا نلتجئ إلى اخوتنا البشر بطريقة تؤدى إلى دعوتهم، ليصبحوا مسؤولين روحياً لنا. فكما عدم وجود الطلاب الذين يطالبون باستمرار بمعلمين صالحين، يؤدى بالنتيجة إلى عدم وجود المعلمين الصالحين، كذلك هو الأمر في ما يتعلق بالموجهين الروحيين. فهناك العديد من الرجال والنساء الذين يمتازون بالإحساس الروحاني الرائع، لكن مواهبهم تبقى مهملة لعدم الالتجاء إليهم. في الواقع، بإمكان الكثيرين أن يصبحوا حكماء وأتقياء من أجلنا، وذلك إذا ما دعيناهم إلى مساعدتنا في سعينا إلى الصلاة النابعة من القلب. ومن ناحية أخرى، ليس من الضروري أن يكون مرشدنا الروحي أكثر ذكاء وخبرة منا، لكن من المهم ان يقبل دعوتنا إلى توجيهنا لنكون اكثر قرباً من الله، وأن يتوغل معنا في الكتب المقدسة والصمت، حيث يخاطب الله كل واحد منا. وعندما نريد حقاً أن نعيش حياة الصلاة ونسأل أنفسنا ماذا قد تكون الصلاة النابعة من قلبنا، سيمكننا أن نعبر أيضاً عن نوعية التوجيه الروحي الذي نحتاج إليه وسنجد شخصاً ينتظر منا طلب مساعدته، وفى الغالب، سنكتشف أن هؤلاء الذين نطلب مساعدتهم، ينالون حقاً الهبة لمساعدتنا والنمو معنا في الصلاة.
على هذا، فإن الكتاب المقدس والصمت والموجه الروحي هي الركائز الثلاث المهمة في بحثنا عن أكثر الطرق شخصية للدخول في علاقة حميمة بالله. عندما نتأمل باستمرار في الكتب المقدسة ونخصص بعض الوقت للصمت في حضرة إلهنا، ونكون على استعداد لتسليم خبراتنا الذاتية مع الكلمة والصمت إلى الموجه الروحي، فسوف يمكننا أن نتجنب التعرض لأوهام جديدة ونفتح الطريق أمام صلاة القلب .

قد يحدث لأكثر المسيحيين الذين يريدون أن يسعوا إلى الرب مثابرة وإخلاصاً، أن يفتشوا في وقت ما من حياتهم عن الشخص الذي يمكنه أن يوجههم. لكن التوجيه الروحي ليس محصوراً في علاقة ثنائية. إن حكمة العديد من المسيحيين الذين كرسوا حياتهم في مجرى التاريخ للصلاة لهي محفوظة ومعاشة في التقاليد المختلفة، وفي أنماط الحياة الروحية أو الروحانيات التي نجدها اليوم في المسيحية المعاصرة. وفي الواقع، إن عادات الصلاة وأنماط العبادة وأنواع التحدث عن الله، التي سادت في أوساطنا المختلفة، هي في الغالب، الموجهة الأولى بين الموجهين الروحيين، ومن أكثرهم تأثيراً. إن كل وسط روحي له اتجاهه الخاص، إذ قد يُشدد في مكان ما على الصمت أو على مطالعة الكتب المقدسة، وقد يُشدد في مكان آخر على التأمل الفردي أو على التعبد الجماعي، وقد يُشدد في مكان آخر على التأمل الفردي أو على التعبد الجماعي،وقد يكون الفقر هو الفكرة الموحدة في مكان ما، وفي مكان آخر قد تكون الطاعة، وقد يُقترح الخبرات الصوفية الرائعة طريقاً للكمال، أو قد يُقترح الطريق البسيط في الحياة اليومية المشتركة. وفي ما يتعلق بأي اتجاه روحي، يعتمد ذلك كثيراً على زمن الانطلاق بروحانية جديدة، وعلى شخصية من كان أبرز الموحين بالاتجاه الروحي المعين وأصبح كذلك، أو قد يعتمد الحاجات الخصوصية التي يلبيها ذلك الاتجاه الروحي. وبما ان هذه الروحانيات ترتبط، في الأغلب، بشخصيات تاريخية مهمة وذائعة الصيت، فإن ذلك يساعدنا على أن نلتجئ إلى هذه الشخصيات بصفتهم موجهيين حقيقين لنا في سعينا للتوصل إلى طريقنا الروحاني الذاتي. فهناك بنديكيت وفرنسيس الأسيزي ودومنيك وأغناطيوس دى لويولا وتيريزا دافيلا ويعقوب بوهمي وفرنسيس دي سالس وجورج فوكس وجون ويسلي وهنري مارتن وجون هنري نيومان وسورين كيركغارد وشارل دي فوكو وداج هامرشولد ومارتن لوثر كينج الأصغر وتوماس ميرتون، والعديد من الآخرين الذين من خلال حياتهم الذاتية وحياة تلاميذهم وطلابهم المخلصين، يقدمون إلينا مرجعاً واتجاهاً في محاولاتنا إيجاد صلاة القلب.

إنه من الصعب، بدون هؤلاء الموجهين الروحانيين، أن نبقي مخلصين لرغباتنا في اكتشاف طريقنا الروحي الذاتي. والبحث في الاتجاه الروحاني هذا عسير وغالباً غير مطروق، ويحتاج المرء باستمرار إلى نظرات روحية جديدة، بالإضافة إلى السند والارتياح الضروريين للمتابعة. أما القديسون الكبار الخالدون، فأنهم لا يطلبون التمثل بهم، إذ إن طريقهم كان فريداً ولا يمكننا إعادته، لكنهم يدعوننا إلى التوغل في حياتهم ويقدمون إلينا فسحة لاستضافتنا في بحثنا الذاتي. وقد لا نرتاح لبعضهم الذين يشعروننا بالانزعاج، وقد يثير آخرون سخطنا، غير أننا قد نجد بين العديد من هذه الشخصيات التاريخية الكبيرة قلة من الرجال والنساء، يتكلمون بلغة قلوبنا ويزودوننا بالشجاعة، فيعتبروا بحق موجهينا الروحيين، ليس للاقتداء بهم وحسب، بل لمساعدتنا على أن نعيش حياتنا على نحو حقيقي كما هم فعلوا. وعندما نجد موجهين كهؤلاء، فذلك يدعونا إلى شكرهم، والى الاستماع بانتباه إلى ما يقولونه.

الأب هنري نووين
من كتاب: "السعي إلى الأعماق"