"في وضع الإنسان .. والأبدية"

بليز باسكال ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

(فقرات متنوعة)

إن الزهو متأصل في قلب الإنسان لدرجة أن الجندي والوصيف والطباخ والحمال يتباهى ويود لو يكون له معجبوه. بل أن الفلاسفة أنفسهم يودون الشيء نفسه. وأولئك الذين يهاجمون ذلك بكتاباتهم إنما يرغبون في الحصول على شرف الكتابة الحسنة. وكذلك الذين يقرءون كتاباتهم يرغبون في الحصول على شرف القراءة.
ولربما كان كاتب هذه الكلمات يحس بهذه الرغبة، ولعل أولئك الذين سيقرءون هذه الكلمات سيشعرون بهذه الرغبة أيضاً ...

******


إن خلود النفس أمر عظيم الخطر، كبير الأثر، لدرجة أن إهمال شأنه يستدعي فقدان كل شعور. إن أفعالنا وأفكارنا تسلك طرقاً مختلفة تبعاً لوجود نعيم دائم أو عدم وجود مثل هذا النعيم، بحيث يستحيل علينا أن نختط خطة بعقل ودراية إلا بتنظيمها وفق هذه النقطة التي يجب أن تكون غايتنا الأخيرة.
وعليه، إن مصلحتنا الأولى وواجبنا الأول تبين هذا الموضوع الذي يرتبط به كل سلوكنا. ولهذا السبب، من بين غير المقتنعين، أميز تمييزاً كبيراً بين أولئك الذين يسعون جهدهم لمعرفة الآمر وأولئك الذين يعيشون دون أن يفكروا فيه.
لا يسعني إلا أن أشعر بشعور الشفقة إزاء أولئك الذين يتألمون بصدق من هذا الشك، ويعتبرونه آخر المصائب، ولا يدخرون جهداً للخلاص منه، فيجعلون من هذا البحث شغلهم الشاغل.
أما الذين يمضون حياتهم دون أن يفكروا في النهاية الأخيرة للحياة، والذين لا يجدون في أنفسهم ما يقنعهم ولا يبحثون عن الهدى في مكان آخر، ولا يحاولون أن يتبينوا هل هذا الأمر هو من الأمور التي تتميز بأساس راسخ رغم إبهامها في حد ذاتها، ... أما هؤلاء فأنظر إليهم نظرة أخرى.
أن هذا الإهمال في قضية تتعلق بكيانهم وخلودهم يثير كوامن غيظي أكثر مما يستدر رحمتي وشفقتي. أنا لا أقول ذلك بدافع من التقوى، بل أعتقد أنه يجب أن نتحلى بهذا الشعور بدافع من المصلحة الإنسانية والمنفعة الذاتية. ولا ينبغي في سبيل ذلك إلا أن نرى ما يرى الأشخاص العاديون.
فلا ينبغي أن تكون لنا نفس رفيعة التسامي كي ندرك بأن هذه الحياة لا تنطوي على مسرة حقيقية راسخة، وان كل ملذاتنا ليست سوى لهو عابر، وان مصائبنا ما لها من نهاية، وان الموت الذي يهددنا في كل لحظة سيمضي بنا لا محالة إما إلى الفناء السرمدي أو الشقاء الأبدي.
لا شئ أصح من هذا الأمر.
لا شئ أفظع من هذا الأمر.
فلنتظاهر إذن بالجرأة ما طاب لنا. تلك هي النهاية التي تنتظر أجمل حياة في الدنيا.
فلنمعن النظر ولنفكر في الأمر. ولنقل بعدئذ أليس حقاً أن لا جدوى في هذه الحياة إلا بترقب حياة أخرى، وأن لا سعادة إلا بنسبة دنونا منها.
إنه إذن لشر عظيم أن يعيش المرء في مثل هذا الشك. ولكن الواجب يقتضي على الأقل أن نبحث إذا كنا في مثل هذه الحال. من يخامر الشك نفسه ويعرض عن البحث فهو بائس ظالم. فإذا كان في الوقت نفسه مستريح البال قرير العين فلتأخذه نشوة الزهو وفوره الابتهاج. إن لساني عاجز عن وصف مثل هذا المخلوق المعتوه.

******


حينما أرى ما بالإنسان من عماء وشقاء، وأتطلع في الدنيا الخرساء البكماء، وفي الإنسان متروكاً لذاته بلا أضواء، أشبه ما يكون بالتائه الضائع، لا يعرف من وضعه في هذه الزاوية من العالم، ولا يدري ما هو فاعل فيها، وما سيحل بعد الوفاة، عاجزاً كل العجز عن المعرفة .. حينما أرى ذلك كله يستبد بي الفزع والهول الأعظم كإنسان نُقل وهو غارق في النوم إلى جزيرة رهيبة مقفرة ثم أفاق دون أن يعرف أين مقامه وليست لديه أي وسيلة للخروج.
إنني لأعجب كيف لا تكون نفس المرء يائسة من هذه الحال البائسة!
وألمح أشخاصاً آخرين بالقرب مني طينتهم من طينتي فأسألهم هل هم أحسن اطلاعاً فيجيبونني بالنفي.
ولكن هؤلاء التائهين البائسين رأوا ما حولهم من الأشياء الممتعة فاقبلوا عليها وتعلقوا بها. أما أنا فلم أفعل، وتألمت كم هناك من احتمال لوجود ما هو أكثر مما تقع عليه العين، وفتشت هل خلف هذا الإله ما يدل على ذاته.

******


فلنتصور رجلاً محبوساً في زنزانة ولا يعلم هل صدر الحكم عليه. ولنتصور أن لديه ساعة من الوقت ليعرف حقيقة الأمر مع العلم بأن هذه الساعة تكفي لإلغاء الحكم إذا علم بصدوره. إنه لشيء مخالف للطبيعة أن يقتل هذه الساعة في اللعب بالورق لا في الاستعلام عن الأمر.
لا يثبت وجود الله اندفاع الذين يفتشون عنه فحسب، بل أيضاً إعماء الذين لا يفتشون عنه.

******


حينما أمعن النظر في قصر حياتي الغارقة في امتداد الأزل، وحينما أتأمل في حيز جسمي المحدد الغارق في الأفضاء اللامتناهية،  في الأفضاء التي أجهلها وتجهلني، أحس بالذعر والدهشة لرؤية نفسي هاهنا لا هنالك، لأنه لا شئ يبرر وجودي هنا لا هناك، اليوم لا آنذاك. مَن ذا الذي وضعني في هذا المجال؟ بمشيئة مَن وتوجيه مَن خصص لي الزمان، وعين لي المكان؟
إن الصمت الدائم الذي تلزمه هذه الأفضاء اللامتناهية يشيع في نفسي الرهبة.

******


فلنتصور عدداً من الأشخاص مكبلين بالأغلال، محكومين جميعاً بالإعدام، يُنحر قسم منهم كل يوم أمام ناظر الآخرين، ويرى الباقون وضعهم الخاص في وضع أمثالهم، وينتظرون دورهم وهم يتبادلون النظرات بقلوب محترقة بالألم، ونفوس فاقدة الأمل. هذه هي صورة الوضع البشري.

******


إن المسيحية تعلم البشر هاتين الحقيقتين:
1.    الله موجود والبشر قادرون على التقرب منه.
2.    الفساد موجود في الطبيعة وهذا ما يجعلهم غير جديرين بالتقرب.
فيجدر بالبشر أن يعرفوا هاتين الحقيقتين. ومن الخطر على الإنسان أن يعرف الله دون أن يعرف ما به من شقاء، و أن يعرف شقاؤه دون أن يعرف المخلص الذي يستطيع إنقاذه من هذا الشقاء. أن الإلمام بإحدى هاتين الحقيقتين فقط يؤدي إلى شموخ الفلاسفة الذين عرفوا الله ولم يعرفوا شقاءهم، أو إلى قنوط الملحدين الذين يعرفون شقاءهم ولا يعرفون المخلص.
الذين يضلون السبيل لا يضلون إلا لعدم التبصر في أحد هذين الشيئين. يمكننا إذن أن نعرف الله دون أن نعرف شقاءنا، وأن نعرف شقاءنا دون أن نعرف الله.
ولكن لا يسعنا أن نعرف يسوع المسيح دون أن نعرف الله وشقاءنا معاً
ما إله المسيحيين مجرد إله يصنع الحقائق الهندسية ونظام العناصر، فهذا شأن الوثنيين والأبيقوريين. ولا مجرد إله يشمل بعنايته حياة الناس و أموالهم، فهذا شأن اليهود. إن إله إبراهيم و اسحق ويعقوب، إله المسيحيين، إله محبة وسلوى. إنه إله يملأ قلب المؤمن المدرك، ويجعله يحس ضمنياً بما به من شقاء، ويشعر برحمة الله الواسعة، ويملأ نفسه بالخشوع والبهجة، بالثقة والمحبة، ويجعله لا يستهدف إلا ذاته العلية.
ليس على المرء أن لا يرى شئ إطلاقا، ولكن ليس عليه أيضاً أن يبلغ من المعرفة مبلغاً يدفعه إلى الاعتقاد أنه فهم الله، بل ينبغي له أن يبلغ من الرؤية حداً يجعله يدرك أنه فقده.
وينبغي له، في سبيل ذلك، أن يرى ... و أن لا يرى.
 

بليز باسكال

من "الخواطر"