الحرية والرغبات

دوستوفسكي ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

(من الأخوة كرمازوف)

 

أن العالم يعتز بالحرية، ولاسيما في أيامنا هذه، ولكن ما الذي تؤدي إليه هذه الحرية، وما الذي نراه يتأكد باسمها؟ عبودية النفس والانتحار الأخلاقي. يقول الناس: "إن لك رغبات، فعليك أن تسعى إلى إرضائها، لان حقوقك لا تقل عن حقوق الأغنياء والكبار. لا تخشى إرضاء رغباتك وتنوعها. هذه هي العقيدة التي يؤمن بها الناس اليوم، وهذه هي الحرية كما يتصورها الناس في هذا العصر. فما الذي يؤدي إليه هذا الحق في تنوع رغبات المرء؟ انه يؤدي إلى العزلة والموت النفسي عند الأغنياء، والكراهية والقتل لدى الفقراء. ذلك إن الناس قد أعطوا حقوقاً ولكنهم حُرموا من وسائل تحقيقها. ويزعم بعضهم أن العالم يتجه نحو مزيد من الاتحاد، ذلك أن زوال المسافات وانتشار الفكر يزيد من الأخوة والتضامن.
واحسرتاه! لا تضعوا ثقتكم في مثل هذا التضامن والاتحاد. إن تفسير الحرية على إنها قدرة الفرد على الإكثار من حاجاته و إرضائها بسرعة، يشوه طبيعته، ويثير فيها حاجات باطلة لا سبيل إلى تحقيقها، ويخلق لديه عادات سيئة و أوهاماً زائفة. فلا يعيش الناس إلا في الحسد لإشباع شهواتهم و إرضاء غرورهم. إن إقامة الحفلات، والخروج في النزهات، والتمتع بالمآدب، واقتناء العربات الفاخرة، والظهور بالمظاهر الخلابة، وامتلاك الخدم، يبدو لأبناء المجتمع كضرورة لا غنى لهم عنها، وحاجة يضحوا بحياتهم وشرفهم في سبيلها، وقد يتخلى الإنسان عن حب أخيه الإنسان، أو يؤثر الانتحار على أن يتنازل عنها. وهذا يصدق أيضاً على من لا يملكون ثراءً طائلاً. أما الفقراء فإنهم ينجرون إلى السكر، لما يشعرون به من حسد، وما يدركونه من استحالة إرضاء رغباتهم. وسيأتي اليوم الذي يسكرون فيه بالدم لا بالخمر. فإلى هذا إنما يدفعون. وإني أسأل.. إذا كانت هذه هي الحرية؟ لقد عرفت في الماضي مثقفاً كان "يناضل في سبيل فكرة". وقد قال لي هذا الرجل في ذات يوم انه حين حُرمَ  من التدخين في السجن بلغ ألمه من هذا الحرمان أنه أوشك أن يخون فكره في سبيل التدخين. وكان يزعم أنه يريد أن "يناضل في سبيل الإنسانية".
كيف يمكن لمثل هذا الرجل أن يقاتل... وما هو العمل الذي يصلح له؟ انه عاجز إلا عن اندفاعات مؤقتة وعمل عفوي، أما الثبات والاستمرار فلا طاقه له بهما. فهل من الغريب بعد هذا أن لا يجد البشر الحرية بل العبودية، وأن لا يخدموا الإنسانية أو يعملوا على توحيدها، وإنما وقعوا في الخلافات والعزلة، كما قال لي في شبابي زائري ومعلمي العجيب؟ لهذا فإن فكرة العمل من أجل الإنسانية و الإخوة والتضامن بدأت تفقد مكانتها في عالم اليوم، وأصبحت مثل هذه الأفكار لا تثير إلا السخرية. وآن الأوان للإنسان الذي استعبدته حاجاته، وتعلم أن يرضي الشهوات الكثيرة التي خلقها لنفسه؟ انه يعيش في عزلة روحية، ولا يتوافر لديه أي اهتمام لبقية البشر؟ هذا ما وصل إليه الناس اليوم، كدسوا الثروات الكبيرة، ولكن الفرح تناقص في قلوبهم.
كثيراً ما يسخر الناس من الطاعة والصيام والصلاة، مع أنها في الواقع السبيل الوحيد إلى بلوغ الحرية الحقيقية: إنني حين أضحي بحاجاتي الزائدة، وحين أسيطر بالطاعة على إرادتي المزهوة بالأنانية، إنما ارتفع بعون الله إلى الحرية الروحية التي تهب لي الفرح النفسي. أيهما أكثر تأهباً للنضال في سبيل فكرة عظيمة، الغني الذي يعيش في عزلته الروحية، أم الراهب الذي تحرر من استبداد العادات والحاجات المادية؟ إن بعض الناس يأخذون على الرهبان أنهم معتكفون، فهم يقولون لهم: "لقد اعتزلتم العالم لتضمنوا سلامتكم وراء جدران دير، ونسيتم واجب الخدمة الأخوية للإنسانية". لسوف نرى من الذي سيخدم قضية الأخوة الإنسانية خيراً من غيره. إلا أنهم هم الذين يعيشون في العزلة، لا نحن، ولكنهم لا يدركون ذلك. ومن بيننا إنما خرج، منذ أقدم العصور، أولئك الرجال الذين ناضلوا في سبيل سعادة الشعب. فلماذا لا يكون الأمر على هذا النحو اليوم.

دوستوفسكي

على لسان الأب زوسيما