كلمة الله

د. لاري كراب ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

لماذا يقضي المسيحيون سنوات في دراسة كلمة الله و يظلون بلا تغيير، حيث يمكن اعتبار أن قلوبهم قد تقست؟  بعضهم بالطبع يصبحون أكثر محبة، وقوة، وحكمة عندما ينغمسون في الكتاب المقدس، ولكن عددًا كبيرًا منهم يحتفظون فقط بمبادئهم الأخلاقية وعقائدهم. ويُصبح الآخرون أكثر تمسكـًا بالدفاع عن أنفسهم وبالعقائد الجازمة، وأكثر تباعدًا. لماذا؟

لماذا ينهض المؤمنون المخلصون مبكرًا في الصباح لتمضية الوقت في دراسة كلمة الله ثم يعيشون أيامهم بلا قوة في خدمتهم، بلا سلام في صراعاتهم، بلا محبة في قلوبهم؟ لماذا يعتبر الكثيرون أن الفترات التعبدية الصباحية طقسًا بلا حياة حتى أنهم إما أن يواصلوا ممارستها بدافع العادة أو بدافع الشعور بالذنب – وإما أن يتخلوا عنها؟

لا شك أن المشكلة لا دخل لها بالكتاب المقدس، ولا يجب أن يبعدنا الحل عن استخدامه بشكلٍ صحيح، ولكن لابد من وجود خلل ما عندما يلمس سيف قاطع ذو حدين جلدنا بسرعة منحرفـًا عنها دون أن يتنزع نقطة دم واحدة.

ربما حان الوقت لاستجماع شجاعتنا ومهاجمة التقاليد والمعتقدات التي يتمسك بها الناس دون انتقادها أو حتى الشك في صحتها. يجب أن نعترف بأن مجرد معرفة محتويات الكتاب المقدس ليس هو الطريق الأكيد للنمو الروحي. هناك افتراض مخيف أنه إذا استطعنا فقط إدخال كلمة الله إلى عقول الناس، فإن روح الله سوف يصطحبها إلى قلوبهم. هذا الافتراض مخيف ليس لأن روح الله لا يعمل أبدًا بحسب ما يفترضه ذلك الافتراض، ولكن لأنه قد أعفى الرعاة والقادة أنفسهم من القيام بمسئوليتهم في الاحتكاك بحياة الناس. حيث يختفي الكثيرون في مأمن وراء منابرهم، في حالةٍ من اليأس بعيدًا عن الاحتكاك بالصراعات التي تعاني منها محافلهم الدينية،  مجاهرين بالأسفار المقدسة بدقةٍ متسمة بالأبهة والغرور دون أن تلمس أحدًا.  إن المنابر يجب أن تقدم الجسور المؤدية لعلاقات مغيرة للحياة، وليس الحواجز.

إن كليات الكتاب المقدس وكليات اللاهوت قضت الوقت الكافي للبرهنة على أن مجرد غرس المعلومات لا يغير حياة الناس.  إن الخريجين من ذوي السجلات الأكاديمية المؤثرة قد فشلوا كثيرًا بشكل ٍ بائس في خدماتهم بسبب عدم قدرتهم على التجاوب مع الآخرين،  بعضهم عمل كل شئ حسن – وعظوا، وأداروا، وجمعوا المال، وقاموا بالزيارات، وكرزوا – و لكنهم لم يساعدوا المسيحيين الأمناء على التعامل بكفاءة مع  حقائق  حياتهم.

لم يستطيع بولس أن يضع الفكرة بشكل أوضح من ذلك حين قال: «العـلم ينفـع ولكن المحبة تبني» (1كو 1:8)، ومع ذلك فإن قدرًا كبيرًا من أسباب قراءتنا للكتاب المقدس هو أن نكتسب المعرفة ونحن نكتفي بذلك عندما نحقق هذا الهدف.

علىَّ أن أكون حريصًا لتجنب الإفراط في رد الفعل، فالكتاب المقدس لا يزال بحاجة للدراسة بسبب الخطأ في التعامل مع النص مثل لوحة الويچا. لا يحق لنا أن نقرأ الفقرة ونتوقع من روح الله أن يُـلقي في كياننا بصورة غامضة أي معرفة ذاتية نريد الحصول عليها. إن الدراسة الكتابية سواء مورست من قـِبل متخصصين ذوي تدريب رفيع، أو من قـِبل مسيحيين غير متعلمين يفكرون بطريقة ملائمة من خلال النص،  إنما تقدم الإطار لكل مناقشة صحيحة عن تواصل الله مع شعبه.  ولكن المعرفة العملية ليست هي الهدف النهائي، قد تكون الدراسة الكتابية أهم من الانطباعات، ولكنها لا تساوي شيئـًا إذا لم تؤدي في النهاية إلى التأثير الشخصي.  يجب أن يؤثر النص على حياتنا وأن يجعلنا أكثر حبًا، وليس أن يملأ أذهاننا فقط بمزيد من الحقائق لمساندة تعاليم مفضلة لدينا.

من المُسَلَــَّم به، أن بولس الرسول كتب بحثـًا منهجيًا عن تعليم الخلاص في رسالته إلى أهل رومية، ولكن حتى ذلك البحث كان خطابًا شخصيًا وليس ورقة معدة للقراءة في مؤتمر لاهوتي. كانت الرسالة موجهة  لأناس ٍ أراد بولس أن يعلمهم. إنها لم تكن نتاجَ بحث ٍ قام به أحد علماء في أحد بحوثه، ثم قدمه ككتاب يُدرس للطلبة الذين كانوا مولعين بالموضوع.

إن صيغة الكتاب المقدس تواصلية و شخصية. إنه كتاب عن أناس ٍ يعيشون حياتهم المعتادة، سجلوا اختباراتهم المُرتبة من قـِبل الله و الحكمة الملهمة من الله، لأناس آخرين يعيشون حياتهم المعتادة.  فأن تشرح محتوياته كما يُشرِّح طالب علم الأحياء في المدرسة الثانوية ضفدعة، تاركـًا أجزاءه في ترتيب دقيق على المائدة يُعد سوء استخدام لكلمة الله.

أن تدرسه، نعم. فلتنتفع من المساعدة القيِّمة التي يقدمها العلماء. اقرأ التعليقات، دون الملاحظات أثناء العظات، سجل في الفصول الدراسية كل ما يتطلب النص دراسة ٌعليه. ولكن اعمل كل شئ بهدفٍ أفضل لله، ولنفسك، والآخرين كي ما تصبح أكثر حبًا. إن الدفاع، مثلاً، عن الاعتقاد بالمُلك الألفي بأسلوب يتعارض مع المحبة، شئ مدمر. كل ما نفعله بمعرفتنا الكتابية من داخل أسوار الحماية الذاتية التي لا تقبل الانتقاد أو الشك، ذو قيمة ٌ حقيقية ضئيلة جداً. يجب أن نسمح للكتاب المقدس أن يخترق أفكار ونيات قلوبنا حتى نستطيع أن نرى بوضوح أكثر الطرق التي تنتهك بها المحبة. إذا حاولنا أن نفهم الله بشكل أفضل دون أن نـُلقي نظرة ٌ فاحصة على حقيقة ذواتنا، فإن معرفتنا عن الله المستمدة من الكتاب المقدس سوف تصبح مجرد أفكار لاهوتية، وتصنيف لحقائق صحيحة و لكنها مملة وخالية من الحياة، وإذا حاولنا أن نتصور أناسًا آخرين لكي نقدم لهم حقيقة الله دون أن نعمل جاهدين أولا ً لفهم ذواتنا، فسوف نفشل في أن نتعرف فيهم على ما لا نراه في ذواتنا (مت 1:7 – 5)

إنـي أشعر برغبة مغريـة في تكـرار بعـض الاقتراحات الجديرة بالاهتمام والواضحة في نفس الوقت، عن تقسيم الوقت الذي نقضيه في كلمة الله إلى فترة ٍ للدراسة وفترة للتأمل. ربما يفيدنا كثيرًا أن نمشي مسافة طويلة بعيدًا عن المكتبة، أو نخصص أمسية ً أو أجازة ً أسبوعية من آن ٍ لآخر،  بهدف واضح وهو تأمل حياتنا في ضوء فقرات معينة مما قرأناه في كلمة الله. إن أوقات الهدوء جوهرية كما أنها نادرة، ونحن بحاجة للحظاتٍ هادئة لقراءة قصص شمشون، والتساؤل عن الكيفية التي تجعلنا مشابهين له في التمسك بعناد في ما يثير إعجابنا، ومع ذلك يمكننا أن نخصص بإخلاص مقادير وفيرة من الوقت في التفكير في حياتنا، ونخرج منها ونحن نشعر بالملل وعدم الاستعداد والأسوأ من كل ذلك أن نظل غير متأثرين بسيف كلمة الله. كل الكتاب هو نافع للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب الذي في البر (2تي 16:3).  لذا فإن وقتنا الذي نقضيه في دراسة الكتاب المقدس يجب أن يخترق سلاحنا الواقي ليفضح الخوف المكتسي بثوب الغرور،  والذي يجعلنا نواصل النظر إلى ذواتنا بدلا ً من الثقة بالله.  إنه يجب أن يصل بعمق إلى قلوبنا حيث تكمن المشكلة الحقيقية.

ما الذي يمكن أن نفعله لتشجيع ذلك العمل كي ما يحدث بصورة أكثر تكرارًا و أكثر اكتمالا ً؟ جانب من الإجابة بسيط حقـًا: علينا أن نأتي إلى الكتاب المقدس بهدف الافتضاح الذاتي الشعوري في الذهن. أشك في أنه ليس هناك عددٌ كبير يقوم بأكثر من محاولة رمزية في ذلك الاتجاه. إنه عمل شاق إلى حد بعيد. إنه يجعل من دراسة الكتاب المقدس بالتناوب مهمةً ٌ مُبكتة ُومشجعة، مؤلمة ٌ ومُلطفة، مُحيرة ٌ ومهدئة، وفي بعض الأحيان مملة – ولكن ليس لمدة طويلة إذا كان هدفنا أن نرى ذواتنا في حالة أفضل.

إن اتجاه الاعتماد على الله و المتسم بالتواضع والمُعبَّر عنه في الهدف الواعي بإظهار حقيقة ذواتنا، يجعلنا نسأل الأسئلة الصحيحة عندما نقرأ كتابنا المقدس. وبدلا ً من أن نهز رؤوسنا و نعترف اعترافـًا نبيلا ً باستنكار ٍ قائلين: «آه، نعم ... في بعض الأوقات أكون مثل شمشون مفضلا ً المتع الشهوانية على أمور الله» يمكننا أن نتأثر بالقصة مع قدر من التبكيت الذي يقود إلى التغيير.  ولكن علينا أن نسأل الأسئلة التي تقود إلى التبكيت، أسئلة مثل: ما الذي كان يجري في رأس شمشون ليجعله يتغاضى عن دعوته السامية ويقف معارضًا لرغبات والديه؟ تـُرى ماذا كان بداخله حتى يرتكب الخطية بطيش ٍ وتهور؟ وأي إشباع ٍ يكون قد حصل عليه نتيجة لبوادر العلاقة مع إمرأة فلسطينية؟ هل كان نحيب «منوح» بأنه هو وامرأته سوف يموتان لأنهما قد رأيا الله،  دليلا ً على ميل لإثارة المخاوف دون داع ٍ؛ حيث كانت زوجته بحاجة إليه للموازنة مع إحساسها بالطمأنينة الكبرى (قض22:13-23)؟

نحن نميل لأن نسأل الأسئلة «الصحيحة» (تلك التي تقود للتأثير الشخصي) فقط عندما نقترب من النص لكي نرى أنفسنا بمزيد من الوضوح.  ذلك هو الشرط الضروري الأول، إذا كان لابد لسيف كلمة الله أن يخترق أنفسنا. ولشرط الثاني على نفس الدرجة من الأهمية، وهو أنه علينا أيضًا أن نفهم المبادئ الأساسية للكيفية التي يعمل بها الناس. إن وجهة النظر الكتابية عن الناس تتطلب منا أن نفكر في تلك الجوانب من ذواتنا التي تتوق بشدة إلى الله، كما تتوق أيضًا للحماقة الخادعة التي تقودنا بعيدًا عنه، عندما نتأمل في سجل حياة «شمشون» في ضوء الأشواق العميقة بداخل نفسه والاستراتيچيات الخاطئة لقلبه الخادع، نجد أن الأنماط المدمرة في حياتنا التي تشبه تلك التي في حياة شمشون تظهر بوضوح.

يجب أن نقرأ رسائل العهد الجديد بنفس الاتجاه والهدف. إذا كنا مدركين لإمكانياتنا في تكوين العلاقات واحتمالات انتهاك تلك العلاقات من جانبنا، فإن تعليم بولس عن الزواج يمكن أن يُثير التفكير العميق والأسئلة الصحيحة. إن وصيته بأن يحب الأزواج زوجاتهم، يجب أن تقود للتأمل في ما ترغبه المرأة بالضبط من الرجل، وفي ميل الرجل للاستجابة الأقل لرغباتها وميله للمزيد من الاستجابة لرغباته الخاصة، وفي أن الرجل يتسم بالعنف والقوة كصفتين ملازمتين له.

عندما نخضع ذواتنا بإخلاص لفرص اكتشاف ذواتنا، وندرك أن أناس الكتاب المقدس كائنات لديها أشواق مثلنا، ولها مطالب حماية الذات أيضًا مثلنا، قد نستطيع أن نقف في هدوء تحت النور الساطع للكتاب المقدس ونجعله يعمل عمله. إذا درسنا النص لمجرد أن نعرف الحقيقة، وفشلنا في سماع نبضات قلوب الأشخاص الحقيقيين الذين كانوا يعيشون في عصور الكتاب المقدس، فإن الوقت الذي نقضيه في دراسة الكلمة سوف يقودنا للتغيير السطحي في أحسن الأحوال. عندما تفوتنا شخصية في الكتاب المقدس ونمر عليه من دون الأمانة التي ترغب في كشف حقيقة ذواتنا، فإن السراج لأرجلنا والنور لسبيلنا يكونان معتمين، حيث يمكن إطفاء الروح وعقلنة الكلمة.

د. لاري كراب

من كتاب "التغيير من الداخل....البداية"