تسرب الإيمان وموجة الغربلة

خادم مكرس ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

لماذا يبدو كأن العدو يضع جبالاً من الصعاب تجاه الله ومواعيده.. ولماذا يبدو الله بعيداً أو غائباً ومحتجباً؟

-    والسؤال الآن هل حقاً الله محتجب وغائب أم أننا نحن نراه هكذا.. وماذا عن الواقع الذي يبدو وكأنه يظهر غياب الله أو على الأقل سلبيته نحونا؟!

-    أو لم يقل النبي إشعياء قديماً عن الله "حقاُ أنت إله محتجب يا إله إسرائيل" (أش 45: 15). بل وسمعنا صرخة هذا النبي تجاه حال شعبه وقتها "استيقظي استيقظي البسي قوة يا ذراع الرب استيقظي كما في أيام القدم كما في الأدوار القديمة الست أنت القاطعة رهب الطاعنة التنين. ألست أنت هي المنشفة البحر مياه الغمر العظيم الجاعلة أعماق البحر طريقا لعبور المفديين؟" (إش 51: 9-10). نعم، فالنبي كان يستعرض بعيني الروح تاريخ شعبه مع الله ويتعجب:

-        أين إله موسى الذي أخرج الشعب من مصر وعبره البحر الأحمر وأرسل لهم المن وفجر الصخرة.

-        أين إله يشوع الذي أطال النهار يوماً كاملاً لينهي حرباً مع شعبه بالنصرة على أعدائه "فدامت الشمس ووقف القمر حتى انتقم الشعب من أعدائه. أليس هذا مكتوباً في سفر ياشر؟ فوقفت الشمس في كبد السماء ولم تعجل للغروب نحو يوم كامل. ولم يكن مثل ذك اليوم قبله ولا بعده سمع فيه الرب صوت إنسان, لأن الرب حارب عن إسرائيل." (يش 10: 13-14).

-        أين إله إيليا وأليشع الذي أنزل النار مراراً والذي استطاع أليشع بثوب معلمه أن يضرب النهر ويعبر فيه؟! (2مل 2: 14).

هذا كله يجعلنا نحن أيضاً أن نتساءل بوجع: هل صار الله في العهد القديم أكثر وضوحاً في مناصرة شعبه ورفقته منا نحن في العهد الجديد بكل امتيازاته الخلاصية وسكنى روح الله فينا؟

-        بل ولنكمل صرخة إشعياء وبنفس أسلوبه ونتساءل: أين إله دانيال الذي غير قلوب الأباطرة بل وأرسل يده الكاتبة (دا5:5) فكتبت على الحائط وأرعبت الملك الماجن وغيرت وجه التاريخ في يوم وليلة (دا5: 30).

-    بل ونتساءل: هل حقاً الله محتجب عنا الآن؟! ولكن كيف يمكن أن نتجاسر ونتساءل مثل هذا السؤال بعدما تجسد المسيح! هل يمكن أن يحتجب وكيف يمكن هذا بعدما لبس جسدنا وصار بيننا وكشف عنه الرسول يوحنا "الذي كان من البدء الذي سمعناه الذي رأيناه بعيوننا الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة. فإن الحياة أظهرت وقد رأينا ونشهد ونعلمكم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأظهرت لنا. الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به، لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا. وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح" (1يو1: 1-3).

أبعد هذا كله يمكن أن يكون إله العهد الجديد الذي أظهر في المسيح ابنه محتجباً أو بعيداً؟

ولكن كيف نتصالح مع الواقع الذي يظهر وكأنه بالفعل متغيب؟! فالمسيح فصل التاريخ كله: ما قبل الميلاد وما بعده، وبالتالي صار تجسد المسيح قوة فاصلة بين ماضي انتهى وحاضر مستمر فيه وبه ومملوء بالحياة وكل من كان حياً وآمن بي فلن يموت إلى الآبد. "أتؤمنين بهذا؟" (يو11: 26)

ولكن ماذا عن واقعنا؟! فكم من مرة في نهاية العام صلينا وطلبنا تغيير حياتنا والتخلص من خطايا مزمنة ولكن يأتي عام جديد وتتكرر الخطايا ونعاود الأنين من حال حياتنا المتغرب عن قوة خلاصه وغنى ميراثنا في المسيح.. إذن أين قوة المسيح الفاصلة؟ بين ماضي ينتهي وخطايا تُزال، فإذ ذاك كان يجب أن يتألم مراراً كثيرة منذ تأسيس العالم، ولكنه الآن قد أًظهر مرة عند انقضاء الدهور ليبطل الخطية بذبيحة نفسه." (عب9: 26) وحاضر متجدد مختلف ومضيء بالنعمة ومزين بالتسبيح؟!

أليس هذا يدعونا للتفكير بأن مسيحنا متغيب؟ لكن الحقيقة بحسب إعلان الكتاب في العهد الجديد إنه غير متغيب لأنه تجسد وحضر وصار دائماً حاضراً بالروح القدس في كنيسته ووسط شعبه حسب وعده "وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به. وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر." (يو28: 20)

إذن لماذا لا  يصنع المسيح فينا التغيير المرتقب من عام لعام (على الأقل)، فيضع حداً فاصلاً بين شرور، خطايا، تعثرات، مشاكل، فتنتهي ويبدأ عاماً جديداً (مرحلة جديدة) فيها نعمة جديدة (من سر تجسده وميلاده) وطاقة إلهية جديدة ورؤية إيمانية جديدة فنصبح بحق شعب عهد جديد.. نحيا الحياة الجديدة المتجددة باستمرار "فدفنا معه في بالمعمودية للموت، حتى كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الآب، هكذا نسلك نحن أيضاً في جدة الحياة؟" (رو6: 4).

 

الإجابة هي: أننا في العهد الجديد وبلغة الإعلان الكتابي جعلنا المسيح يُدفع لمؤخرة سفينة حياتنا وينام (مت8: 24، مر4: 38، لو 8:23) فهبت الرياح وجاء النوء ودخلت السفينة منطقة الخطر، ويا للأسف لم نعرف حتى أن نصرخ كالتلاميذ "يا سيد أما يهمك أننا نهلك" لم نوقظه كما فعل التلاميذ بل طلبنا حكمتنا ومشورة البشر وصرنا فعلاً إلى هلاك..

أين أيماننا؟ بكل أسف متسرب....

أين إلهنا الحي الحاضر؟ غيبناه بإرادتنا لأننا أحببنا أن نقود سفينة حياتنا بأسلوبنا (أسلوب العالم حولنا) حتى لا نبدو مختلفين أو متخلفين (لئلا يُنظر إلينا هكذا، لأننا أحبننا مجد الناس أكثر من مجد الله).

هذا كله (وغيره) أعطى الفرصة للعدو أن يطلبنا بإلحاح لكي يغربلنا ويستبعد ويدمر ويمد سلطانه على الأرض بل ويتجاسر حتى على كنيسة المسيح.

 

تداعي الحاجز (عبرة التاريخ)

نحتاج أن نتفهم حقيقة كتابية هامة جداً بخصوص مسئولية الكنيسة ودورها النبوي في الوقت الحاضر فالرسول بولس يكتب لكنيسة التسالونيكيين قائلاً "لأن سر الإثم يُعمل فقط، إلى أن يُرفع من الوسط الذي يحجز الآن" (2تس2: 7).

والمعنى المقصود في هذه الآية هو أن الكنيسة بالروح القدس الحاضر فيها والمالئ لشعبها تمتلك قوة رادعة للشر (تيار الإثم) فمن ناحية لا ينبغي أن يقتحمها بل ولا يقدر أن يمد سلطانه الشرير المدمر على الأرض التي توجد فيها كنيسة حية حاملة قوة الروح الذي يحجز هذا التيار الشديد ويضع له حدوداً لا يتعداها فلا يعيق مقاصد الله الملكوتية "ليأت ملكوتك"

أما إذا ضعفت الكنيسة ولم تعد ساهرة على قداستها (كنيسة مقدسة أف 5: 27) وضعفت شركة الروح القدس في شعبها (ولم يعد ممتلئ بالروح حسب الوصية)".. بل امتلئوا بالروح" (أف 5: 18). فإنه "قوة الحجز" للإثم، أي قوة الحد من تيار الشر في الأرض تضعف وتزداد قوة الشر وسلطان الأثيم (العدو الشرير) وشيئاً فشيئاً يقتحم شعب الله ويدمر كنيسة الله (المرئية) ويأخذ الفرصة للقتل والتعذيب لأولاد الله وبالتالي يؤثر على الأرض كلها (التي اقتحم كنيسة شعبها) ويغير وجهها وتاريخها...

أليست هذه عبرة للتاريخ ودرس الله الذي يكلمنا عبر القرون لنتعظ وننتبه (فالتاريخ قصة الله: history = his story

وأمامنا أمثلة ناطقة وصارخة من سجلات التاريخ الذي يكلمنا بوضوح:

-        فأين هي كنيسة القسطنطينية بكل أمجادها وتاريخها وشعبها وقديسيها.. ولماذا أتى الأتراك وعذبوا شعب الله واقتحموا الأرض وغيروا وجه تاريخ القسطنطينية بل واسمها؟!

-        وأين كنيسة روسيا التي ترينت بقديسين عظماء وعباد جبابرة في الروح.. ولماذا أتت الشيوعية وحطمت الإيمان وعذبت القديسين وغيرت شكل البلاد ووجهها.

-        ولماذا حدث بالمثل في رومانيا أيضاً وأضيف لتاريخها صفحة مختلفة تماماً عما سبق عندما اقتحمتها الشيوعية أيضاً (وفعلت المثل كما فعلت في روسيا).

بمراجعة التاريخ نرى بكل أسف أنه قبل حدوث هذه الكوارث كانت الكنيسة في طريقها للانحدار المتتالي إيمانياً وتقديسياً – فالشعب والرعاة لم يسهروا على قداستهم وطاعة الله وأمانة الرعاية.. والله صبر وأطال أناته وأخيراً سمح للُمجرب أن يغربل.. كثرت الآلام جداً وتغيرت البلاد ولكن أخيراً.. وقعت الحنطة وماتت ولكن أخيراً قامت فأتت بثمر كثير والآن نرى في هذه البلاد نماذج قديسين ولاهوتيين وعباد وكنيسة حية مقامة من جديد تشهد للمسيح وقيامته.

بقى أن نقول: هل يجهل أحد ما يحدث حولنا في كنيسة المسيح، هل نتغاضى عن الضعف أو القداسة المفقودة أو العفة المسلوبة أو الأمانة الغائبة أو الرعاية المتعثرة بل والمعُثرة. هل يمكن لكنيسة كهذه أن تظل حافظة قوتها كالحاجز الذي يحجز الإثم.. ألا يعني هذا تداعي الحاجز.. وماذا يمكن أن نتوقعه إن لم نستفق في الأوان المناسب إلا تكرار التجربة التي سبق وذكرنا أمثلتها.

ألا يعني هذا أن "موجة الغربلة" في طريقا إلينا وعلينا أن ننتبه جيداً....

 

خادم مكرس

من كتاب "سر التجسد ومواجهات جيلنا"