الشجاعة فضيلة النضج

رولو ماي - إرفين يالوم ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

الشجاعة في أن يكون المرء نفسه
(ملحوظة للمتصفح: هذه الفكرة طويلة بعض الشيء، ونظراً لأهميتها لم نستطع اختصار أي جزء منها. يمكنك نسخها ولصقها بملف خاص على جهازك لقراءتها في وقت لاحق)

في أي عصر من العصور تأتي الشجاعة على رأس الفضائل الضرورية للإنسان كي يقطع الطريق من الطفولة إلي نضج الشخصية. لكن في عصر القلق هذا، عصر أخلاقيات القطيع والعزلة الفردية، تصبح الشجاعة أمر حتمي. ففي الفترات التي فيها توجود قواعد أخلاقية متسقة داخل المجتمع يجد الفرد ما يتكئ عليه أثناء أزمات نموه، أما في الأوقات الانتقالية مثل زماننا هذا، يجد المرء نفسه وحيداً في سن مبكر ولفترة أطول. ونحن هنا لا نشير أساساً إلي الشجاعة المطلوبة لمواجهة التهديدات الخارجية مثل الحرب والقنبلة الهيدروجينية. إنما نشير بالأحرى إلي الشجاعة بوصفها خاصية داخلية أو طريقة لإقامة علاقة مع ذات المرء وإمكانياته. وعندما تتحقق هذه الشجاعة في مواجهة الذات يستطيع المرء مواجهة التهديدات الخارجية بهدوء وثقة أكبر.

الشجاعة هي القدرة على مواجهة القلق الذي ينبع من تحقيق المرء لحريته وإرادته. إنها إرادة التمايز والتحرك من المناطق المحمية حيث التبعية للوالدين إلي مستويات جديدة من الحرية والتكامل. وتنبثق الحاجة للشجاعة عند هذه الأطوار، ليس فقط عندما يتضح الانفصام عن الحماية الو الدية في أجلى معانيه مثلما عند ولادة إدراك الذات وقطع الاتكالية على الوالدين أو عند الذهاب إلي المدرسة أو عند مرحلة المراهقة أو في أزمات الحب واختيار المهنة الملائمة والزواج ومواجهة الموت كنهاية، لكن يظهر الاحتياج للشجاعة أيضاً عند كل خطوة بينية مع تحرك الإنسان من الإطار المعتاد إلي أصقاع جديدة والي استكشافات مذهلة. وكما صاغها في ذكاء عالم الأعصاب د. كورت جولدشتاين "الشجاعة في صورتها الأخيرة ليست إلا إجابة توكيدية علي صدمات الوجود لابد من ولادتها لتحقيق طبيعة نفس المرء" فإن نقيض الشجاعة ليس الجبن .... بل بالأحرى هو فقدان الشجاعة. فأن نقول أن شخصاً ما "جبان" فأن هذا أمر لا يعني أكثر من أن نقول مثلاً أنه "كسول"، أي نه يقول لنا ببساطة أن ثمة إمكانية ما عنده مغلقة أو غير متحققة. إنما عكس ونقيض الشجاعة، حسبما يحاول المرء أن يفهم المشكلة في عصرنا، هو التشكل والتواؤم الآلي. في الواقع فإن الشجاعة لأن يكون المرء نفسه هي أمر يتم الإعجاب به في الخفاء هذه الأيام.
مثل هذه التعبيرات توضح حقيقة أن المرء يكره أشد ما يكون الخروج عن النسق والتطلع خارج الجماعة وعدم التواؤم معهم. فيفتقد الناس الشجاعة لخوفهم من العزلة أو لخشيتهم من التعرض للعزل الاجتماعي أي للسخرية أو التهكم أو الرفض. فإن عاد المرء وغرق داخل الجماعة فهو لا يتعرض لمثل تلك المخاطر، حيث أن تلك العزلة هي تهديد جد خطير. لقد أظهر الأنثروبولوجي د. والتر كانون في دراسته "للموت سحر الفودو" أن القبائل البدائية كانت تقتل الأفراد أحياناً قتلاً نفسياً عن طريق عزلهم عن المجتمع، وثمة حالات لبعض الأفراد في بعض القبائل الذين ذووا وماتوا عندما عُزلوا وبدأت القبيلة في معاملتهم كما لو كانوا وباءاً، والأدهى كما لو كانوا غير موجودين. وأيضا قد ذكرّنا ويليام جيمس بأن المصطلح "يقتل اجتماعياً بفصمه عن الناس" هو مصطلح حقيقي وليس مجازي. ومن ثم فليس الأمر تخيلاً مريضاً من خيال عصابي حيث يخشى الناس أن يبقوا بمفردهم معزولين في معتقداتهم الخاصة والجماعة ترفضهم.
أن ما نفتقده في يومنا هذا هو فهم الشجاعة الشخصية الأصيلة البناءة الدافئة الودودة التي تحلي بها أناس مثل سقراط أو سينوزا. نحن نحتاج لأن نستعيد تفهم الجوانب الإيجابية من الشجاعة – الشجاعة بوصفها الجانب الداخلي من النمو، الشجاعة كوسيلة بناءة بها يصير المرء نفسه قبل أن يمتلك القدرة على أن يمنح نفسه. ومن ثم ولو وكدنا في هذا الفصل علي التزام المرء بمبادئه، فنحن لا نعني علي الإطلاق أن يحيا الفرد في فراغ العزلة، ففي الواقع أن الشجاعة هي أساس أي علاقة بناءة إيجابية.

نحن نعرف الآن عبر الدراسات التحليلية النفسية كما لم يعرف بلزاك في زمانه أن أحد الأسباب التي تتطلب شجاعة فائقة لإنجاز النشاط الإبداعي هي أن الإبداع يعني أن نصير أحراراً من روابطنا مع الماضي الطفولي، وأن نكسر القديم من أجل أن نعطي الفسحة ليولد الجديد. لأن إبداع أعمال خارجية سواء في الفن أو مجال المال والإعمال أو الصناعة أو أي شيء آخر، وإبداع الذات – أي تنمية قدرات المرء والتحرر وتحمل المسئولية – إنما هما وجهان لنفس العملية. فكل فعل إبداعي أصيل يعني تحقيق مستوى أعلي من إدراك الذات والحرية الشخصية وهذا كما رأينا في أسطورة بروميثيوس وقصة آدم قد يتطلب صراعاً داخلياً مذهلاً.
رغب رسام مناظر طبيعية، كانت مشكلته الأساسية هي تحرير نفسه من الروابط التي تربطه إلي أمه المتسلطة، أن يرسم صور شخصية أو بورتريه لكنه لم يجرؤ قط. وأخيراً استجمع كل شجاعته ورسم عدة بورتريهات في غضون 3 أيام. كانت ممتازة لكن المثير حقاً أنه لم يحس فقط بسعادة غامرة لكنه أحس أيضا بقلق داهم يجتاحه. ففي الليلة الثالثة حلم بأن أمه تقول له أن علية أن ينتحر، وأنه دعي كل أصدقائه ليودعهم وهو يحس بإحساس رهيب مرعب من العزلة. معني الحلم ببساطة هو "إذا كنت ستبدع، فإن عليك أن تودع المعتاد المألوف، وأنك ستكون مستوحداً وتموت؛ فالأفضل لك أن تبقى مع المألوف وتستبقيه، وأن لا تبدع." إنه لأمر له مغزى مهم حقاً عندما نرى طبيعة هذا التهديد اللاشعورى القوي؛ انه لم يستطع أن يرسم بورتريه جديد لمدة شهر إلي حين استطاع أن يتجاوز هجوم القلق المضاد الذي ظهر له في الحلم.

في القطعة الأدبية الرائعة لبلزاك ثمة عبارة واحدة قد لا نتفق معها، تقول أن الشجاعة "لا تفهمها العقول العادية"، فهذا هو الخطأ الناجم عن تعيين الشجاعة في الإعمال المذهلة مثل هجوم الجنود، أو صراع مايكل أنجلو لإتمام اللوحات علي سقف كنيسة سيستين. في ضوء معرفتنا الحالية لنشاطات العقل اللاشعورية نعلم أن صراعات الحياة والتي تتطلب شجاعة تعادل شجاعة الجندى المقاتل، إنما تظهر في أحلام أي إنسان وفي الصراعات الأعمق اتخاذ القرارات الصعبة. إن قصر الشجاعة علي الإبطال والفنانين فقط يظهر لنا كم نجهل عمق عملية النمو الداخلي ربما لأي فرد. فنحن نحتاج للشجاعة ربما في كل خطوة يخطوها المرء ليخرج من إطار المجموع – الذي يرمز للرحم – ليصير شخصاً في ذاته، وكما لو أن المرء يولد مرة أخرى في كل خطوة يتخذ فيها قراراته اليومية. إذن الشجاعة سواء كانت شجاعة الجندي الذي يخاطر بحياته أو شجاعة الطفل الذاهب للمدرسة إنما تعني القدرة علي التخلي عن المعتاد والمأمون. الشجاعة مطلوبة ليس فقط في قرارات المرء الهامة من أجل حريته، لكن أيضاً في قراراته اليومية التي تضع اللبنات الأساسية في بنية نفسه التي يبنيها بنفسه كي يصير شخصاً يعمل في حرية ومسئولية. ومن ثم فنحن لا نتكلم عن الأبطال هنا. وفي الواقع فالبطولة الصارخة مثلها مثل التهور، ليست نتيجة للشجاعة وإنما هي نتاج شيء آخر جد مختلف.

عادة يستطيع الطفل إن يخطو كل خطوة في سبيل التمايز عن والديه وكل خطوة علي طريق أن يصير نفسه دون قلق ضخم، مثلما يتعلم أن يصعد السلم بالرغم من الألم والإحباط الناجمين عن السقوط مراراً وتكراراً وينجح في النهاية مطلقا ضحكة سعادة خالصة. وهكذا أيضاً يحس الطفل عادة باستقلاله النفسي خطوة بخطوة. فإذا أدرك حب الأبوين له وأدرك الأمان المتناسب طردياً مع درجة عدم نضجه، فبوسعه أن يتحمل الأزمات الوقتية مع والديه، مثل أزمة الذهاب للمدرسة، ولا تندثر شجاعته النامية. فهو لا يجب أن يطلب منه أن يتحمل الوقوف بمفرده لدرجة أكبر مما يطيق. لكن لو أحتاج الآباء إلي إجبار الطفل علي لعب دور ما أو السيطرة عليه عبر الحماية المفرطة نتيجة لقلقهم الخاص، فإن مهمته في النمو تزداد صعوبة . وعادة ينزع الآباء الذين يحسون بشك لا شعوري في قواهم الشخصية إلي أن يطلبوا من أطفالهم أن يصيروا شجعاناً ومستقلين وعدوانيين بصفة خاصة، مثلاً نراهم يشترون للطفل قفازات ملاكمة ويدفعون به إلي حلبات المنافسة في سن مبكرة ويصرون علي أن يصير الطفل هذا "الرجل" الذي يشعرون داخلياً أنهم ليس هو. وعامة فإن الآباء الذين يدفعون الطفل، مثلهم مثل أولئك الذين ينزعون إلي الإفراط في حمايته، إنما يُظهرون في سلوكياتهم، وهي أعلي صوتاً من كلماتهم، عدم ثقتهم في الطفل. ولكن مثلما لن تنمو الشجاعة عند الطفل الذي نفرط في حمايته فهي لن تنمو أيضاً في الطفل الذي نفرط في دفعه. فقد يطور مثل هذا الطفل عناداً أو نزعات إرهابية أو بلطجية، لكن شجاعته تنمو فقط عبر نمو ثقته في نفسه وفي قدراته وفي خصاله الداخلية كإنسان ودونما كثير حديث عن هذا. وتجد هذه الثقة دعامتها الأساسية في حب الأبوين له وإيمانهما بقدراته وإمكانياته. إن ما يحتاجه الطفل ليس الإفراط في الوقاية ولا الدفع والضغط وإنما المساعدة علي استغلال وتطوير قدراته، والاهم أن يحس بأن أبويه يرونه كشخص في ذاته ويحبانه بسبب قيمته الخاصة وقدراته المتميزة الفريدة.
ولكن في الأغلب الأعم، إن ما يطلبونه الوالدان هو أن يحقق الطفل التطلعات الاجتماعية الخاصة بفئتهم الاجتماعية، وأن يحصل علي درجات جيدة ويُختار في التجمعات الطلابية ويكون "سويا" في كل مضمار حتى لا يتكلم الناس عنه، ويتزوج من رفيق ملائم أو يرث عمل أبيه. وعندما يتواءم الابن أو الابنة مع هذه المتطلبات، حتى لو أفتر ضنا أنهم لا يعتقدون فيها، فأنهم عاده يمنطقون تصرفاتهم بقولهم أنهم يحتاجون إلي دعم الأبوين سواء المادي أو غير ذلك. لكن علي مستوى أعمق، ثمة دافع آخر عادة وهو أكثر علاقة بمسألة الشجاعة. ألا وهو أن تحقيق طموحات الآباء هو وسيلة مضمونة للحصول علي الإعجاب والمدح والمكافأة من الآباء وأن يظل المرء "فخر أبويه وقرة أعينهم". ومن ثم فالكبر و الخيلاء والنرجسية هم أعداء الشجاعة.
ونحن نُعِّرف الكبر والخيلاء والنرجسية بوصفها الحاجة القهرية للحصول علي المديح والحب. ولذا يتخلى هؤلاء الناس بالمقابل عن الشجاعة. يبدو الشخص المتكبر المتغطرس النرجسي من الظاهر كما لو كان يفرط في وقاية نفسه، ولا يخاطر ويتصرف كالجبان لأنه يعتقد في أهميته بشدة. لكن في الواقع الأمر علي العكس تماماً. فهو عليه أن يحتفظ بذاته ويحافظ عليها لأنها بضاعته التي يشترى بها المدح والحنان اللذان يحتاج إليهما، بالتحديد لأنه دون مدح وحنان الأب والأم يشعر بأن لا قيمة له. بينما تنبع الشجاعة من إحساس الإنسان بالكرامة وتقدير الذات، والمرء يفقد الشجاعة عندما يقدر ذاته تقديراً فقيراً ويقلل من أهميته. إن الأشخاص الذين يحتاجون باستمرار لسماع كلمات من قبيل "إنه لطيف جداً، أو ذكي جداً، أو طيب جداً" أو "إنها جميلة جداً" هم أشخاص يعتنون بأنفسهم ليس بسبب أنهم يحبون أنفسهم لكن لأن الوجه الجميل أو العقل النابه أو السلوك المؤدب ما هي إلا وسائل لشراء تربيت الوالدين علي الرأس. ولا يؤدي هذا إلا لازدراء وامتهان عميق للذات، ومن ثم نجد العديد من الموهوبين الذين جلبت لهم مواهبهم تصفيق الجمهور وإعجابه، يعترفون علي كرسي العلاج بأنهم يحسون بأنهم مزيفون ومدعون.
يقوض الكبر والخيلاء والنرجسية، أو الحاجة القهرية إلي المديح والإعجاب، شجاعة المرء ويضعفها، لأن المرء عندئذ يحارب بسبب قناعة شخص آخر وليس لقناعته هو الشخصية.
فعندما يتصرف المرء ليكسب مديح شخص ما فأن هذا التصرف يظل ذكرى حية علي الإحساس بالضعف وعدم القيمة، وألا فلا ضرورة لأن يتصرف المرء في دعارة سلوكية نفسية هكذا. ويؤدي هذا عادة إلي الإحساس بالجبن والتخاذل الذي هو أسوء وأمر أنواع المهانة والمذلة، إنه مذلة أن يدرك المرء جيداً أنه قد تعاون بوعي على هزيمة وقهر نفسه. ليس سيئاً أن يُهزم المرء متى كان العدو أقوى منه أو متى هُزم لأنه لم يقاتل، لكن أن يعرف المرء أنه جبان لأنه أختار أن يبيع قوته كي ينافق المنتصر فإن خيانة الذات تلك هي أمر أنواع الخيانات وأقصي أنواع الألم.
ثمة أيضا أسباب محددة في ثقافتنا تجعل التصرف من أجل إرضاء الآخرين يقوض الشجاعة. لأن هذا التصرف علي الأقل بالنسبة للرجال يعني عادة لعب دور الشخص المؤدب غير الواثق وغير المقدام، وكيف يمكن للمرء أن ينمي القوة بما في ذلك القوة الجنسية عندما يفترض أنه غير واثق؟ وفي حالة النساء أيضا تؤدي طريقة الحصول علي الإعجاب تلك إلي تقويض وإعاقة إمكانياتهن الداخلية التي لا تمارس أبداً أو حتى تظهر.

إنما أصعب خطوة بين كل الخطوات والتي تتطلب أعظم شجاعة، هي إنكار حق أولئك الذين قد عاش المرء في كنف توقعاتهم في أن يصيغوا القوانين، وتلك هي أكثر الخطوات رعباً على الإطلاق. إنها تعني قبول الفرد المسئولية عن معاييره وأحكامه الخاصة حتى وهو يعرف مدى محدوديتها وعدم كمالها. وهذا هو ما دعاه بول تيليش "الشجاعة التي تجعل المرء يقبل محدوديته" والتي يري أنها الشجاعة الأساسية التي يجب أن يتحلى بها كل إنسان. إنها شجاعة أن نكون وأن نثق في أنفسنا بالرغم من حقيقة أننا محدودين، أنها تعني الفعل والحب والتفكير والإبداع بالرغم من أن المرء يدرك أنه لا يملك الإجابة النهائية وأنه ربما يكون علي خطأ. لكن بالقبول الشجاع للمحدودية والتصرف المسئول علي هذا الأساس يطور المرء قدراته التي يمتلكها، حتى وهي غير مطلقة بأية حال. وللقيام بهذا لابد من افتراض وجود الجوانب المتعددة لنمو الوعي بالنفس التي ناقشناها من قبل في هذا الكتاب بما في ذلك تنظيم الذات والقدرة علي التقييم والضمير المبدع والعلاقة الإبداعية بحكمة الماضي. ومن الواضح أن هذه الخطوة تتطلب قدراً عظيماً من التكامل والشجاعة الضرورية لها هي شجاعة النضج.

رولو ماي
من كتاب: "بحث الإنسان عن نفسه"