التفكير العربي والقدرة على النقد

عبد الله القصيمي ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

إن القدرة على النقد، هي الموهبة اللازمة لكي يستطيع الفرد والجماعة أن يتكيفا ويكيفا الأحداث الواقعة والمنتظرة تكييفا ً يمنع من الاصطدام بها، ويهب السلامة الممكنة؛ كما يهب الرغبة في التغيير والقدرة عليه.

إن النقد هو رؤية الأشياء رؤية فكرية، رؤية بلا أبعاد، رؤية تمكن من الحكم عليها سليما ً وسريعا ً من حيث الإمكان والاستحالة، والخطر والأمان، و النفع والضرر، أو من حيث الدوافع والغايات. أما الذين لا يملكون هذه الرؤية، فكم هم حريون بأن يصبحوا أهدافا ً سهلة للأخطاء والمضللين ولأنفسهم أيضا ً، وبأن يعجزوا عن رؤية الأحداث في دروب الماضي والحاضر والغد، بل بأن يعجزوا عن رؤية أنفسهم في هذه الدروب المتداخلة.

إنه لا يوجد ما هو ألزم لسلامة الفرد والجماعة من موهبة النقد. إنها لازمة للجماهير بقدر ما هي لازمة للقادة.

إن النقد هو الرؤية الفكرية. إن حاجة الإنسان إلى الرؤية الفكرية ليست دون حاجته إلى الرؤية البصرية.

إن المجتمع الذي يفقد موهبة النقد لهو أفضل قطيع. إن فيه من المزايا لمن يحكمه أفضل مما في أي قطيع.

إن تشييد مدرسة واحدة تعلم صحة الحكم على الأشياء، وتنمي موهبة النقد، لأفضل جدا ً من كل المدارس التي تعلم القراءة والكتابة والكتب، و تعلم أيضا ً التصديق بلا مقاومة. إن التعليم بجميع مراحله لا قيمة له، إذا كانت كل غايته أن يُعلم فهم النصوص دون أن يمنح عقلا ً ناقدا ً محاربا ً. إن أخطر ما في التعليم أنه أحيانا ً يعلم عبادة الحرف، وعادة التسليم دون حرب. إن أخطر ما في التعليم أنه يضعف ملكة النقد، لأنه يلقن الأشياء ويلقن التصديق. إن التعليم أحيانا ً عملية إسكات للعقل، إنه عملية وضع جثث داخل النفس.

المفروض أن يكون الغرض من التعليم أن يعطي فكرا ً مناضلا ً ضد التصديق، فكرا ً يفهم، وينقد، ويوازن، ويخلق.

المفروض أن نقرأ لنفكر وننقد، لا لنؤمن ونختزن. ليست القراءة تسليما ً، ولكنها مفاوضة، وحوار، وصراع، ضد العقول الأخرى، أو مع العقول الأخرى.

لقد ظلت رسالة التعليم أن تقدم قارئين، لا مفكرين ولا ناقدين أو مثقفين .

ما الفرق بين من يحمل أرقى شهادة، وبين من لا يعرف مكان إسمه على الوثيقة التي يبصمها إذا كان الرجلان لا يختلفان في العجز عن الحكم على الأشياء.. إذا كانت حقائق كلا الرجلين إنما تؤخذ من المحاريب.. إذا كان وعى كل منهما وعيا ً تاريخيا ً لا يتغير بالقراءة ولا بالتعليم.. إذا كانت آلهة هذا هى آلهة ذاك.. إذا كانت عيون كل منهما ترى على بعد واحد وبلون واحد..؟

إن المتعلم الذي يسجد للأصنام التي يسجد لها الجاهل لهو جاهل فقد احتمالاته الطيبة. إن المتعلم الذي يقرأ ويصدق، لهو أسوأ من الجاهل الذي يصدق ولا يقرأ.

الشعوب العربية لا تعترف بقيمة النقد بل لا تعرفه. إن النقد في تقديرها كائن غريب كريه، إنه غزو خارجي.. إنه فجور أخلاقي.. إنه بذاءة.. أنه وحش فظيع يريد أن يغتال آلهتها، ويفسد عليها رضاها عن نفسها، وعن أشيائها الكثيرة الجميلة. إن النقد مؤامرة خارجية.. إنه خيانة.. إنه ضد الأصالة.

إنها لذلك، تظل تتغذى بكل الجيف العقلية التي تقدم إليها، لا تسأم التصديق ولا تمل الإنتظار. إنها لا تدرك فساد ما تسمع أو تقرأ كما لا تدرك تناقضه وزيفه.. إنها لا تحاول أن تدرك، بل لا تريد أن تدرك، وتفر ممن يحاولون أن يجعلوها تدرك. إن أسوأ الأعداء في تقديرها، هم الذين يحاولون أن يصححوا أفكارها، وعقائدها، أو يحموها من لصوص العقول، ومزيفي العقائد، وبائعي الأرباب. إن أسوأ الأعداء هم الذين يحاولون أن يجعلوها ترى الأشياء هم الذين يريدون أن يشفوها من مرض الرؤية.

كيف يوجد القارئون والناشرون.. كيف يوجد فينا حتى اليوم من يقرؤون ما يُنشر، ومن ينشرون ما يُكتب.. كيف لا يرفض القارئون أن يقرؤوا.. كيف لا يرفض الناشرون أن ينشروا..؟

ألم يدرك من يقرؤون ماذا يقرؤون.. ألم يدرك من ينشرون ماذا ينشرون..؟

هل هو عجز عن الفهم، أم عجز عن الرفض..؟

هل هو عجز عن إحترام الذات أم عن إحترام الكلمة..؟ إنهم يقرؤون و لكنهم لا يقرؤون. لقد فقدوا خصائص القارئ كما فقد الكتاب خصائص الكاتب، إذن نحن نقرأ ونكتب، و لكن ليس فينا كاتبون ولا قارئون.

إن القراءة والكتابة عندنا ليستا عملا ً فكريا ً ولا معاناة. إنهما حركات وإنفعالات عصبية ونفسية، كحركات العبادة والصلاة وإنفعالاتها، وكقراءة الأذكار.

إن الذي يقرأ لا يقرأ ليفهم شيئا ً، أو يستقبل شيئا ً.

إن القراءة عندنا أصبحت، أو هي لم تزل، أسلوبا ً من أساليب الصلاة والذكر.

إنها تشغيل للذات بلا بحث عن شئ ، غير هذا التشغيل للذات.

لقد فقدت الكتابة والقراءة معناهما في المجتمع العربي، فكاتب الكلمة، وقارئها، أو سامعها، لا يلتزمان أو يشترطان أي شئ.

نحن لا نؤمن بقيمة التفكير. ليس للفكر تاريخ في تاريخنا. إننا لم نعهد تلك الهزات والإنفجارات الفكرية التي وجدت في كل المجتمعات المتحضرة، و أثارت ملاحم عنيفة بين المؤيدين و المنكرين، و أصبح لها ضحايا وشهداء. لقد كان كل ما حدث أن شموعا ً ضئيلة خافتة، أضيئت في أزمان متباعدة، فأطفأتها الأنفاس قبل أن تقابل الريح.

إن تاريخ أية أمة هو تاريخ فكرها، فالتي ليس لها فكر ليس لها تاريخ. و لهذا فإننا لو عمدنا إلى شريط التاريخ الإنساني العام، و قصصنا منه مكاننا، لما شعر النظارة بما حدث.

إن التفكير هو الذي يجعل التغير محتوما ً، أو على الأصح، هو الذي يفتي بجواز التغيير أو بوجوبه، ويرى حتميته ويساعد على ذلك. فإذا كان حراما ً أن نتغير كان حراما ً أن نفكر. أما أن يكون التغيير – تغيير الآلهة، والمذاهب، والعقائد، والنظم، والأخلاق، فسادا ً أو حراما ً، ثم يكون التفكير استقامة، أو حلالاً، أو واجبا ً، فهذا هو الجمع بين القبول والرفض.

إذن؛ نحن لا نؤمن بالتفكير لأننا لا نؤمن بالتجديد، ولكن لماذا نهاب التجديد..؟

إن كل الخوف من التفكير، ليس إلا خوفا ً من التجديد.

إنه لم توجد كتب في لغتنا عن الفكر وحريته، ومعاركه، وانتصاراته، أو عن بناته.

إن كلمة فكر لم توجد في تاريخنا مقصودا ً بها معناها المعروف عند الشعوب التي كان لها أفكار ومفكرون؛ وإنما جاءت مادة التفكير مرادا ً بها غير هذه المعاني، بل مرادا ً بها ما ينافي هذه المعاني.

التفكير العربي لا يدرس، بل يحكم..

التفكير العربي ليس تصميما ً عقليا ً أو علميا ً. إن أحكامه على الأشياء ليست نتيجة دراسة، أو حتى تأمل؛ بل هي أحكام فقط. أحكام بلا دراسة بلا تأمل. إنها قصاصات متناثرة من الروايات الدينية، والتاريخية، والفلسفية، ومن الأشعار، والحكم، والأمثال الشائعة في السوق. إنها ليست تصميما ً.

لم يكن من طبع التفكير العربي أو قدرته الصبر على الدراسة المباشرة الشاملة. إنه حينما يريد أن يدرس الإنسان مثلا ً، فإنه لن يدرسه في الإنسان كما يصنع كل من يدرس شيئا ً؛ إنه لا يعمد إلى الإنسان نفسه فيدرس خصائصه وغرائزه، وكل ما يتفاعل في ذاته الجسمية  والشعورية والفكرية، وما يصدر عنها بإستقراء وإحاطة، ويميز ما هو إنساني عام يشترك فيه جميع آحاد هذا المخلوق، وما هو خاص لظروف خاصة ببعض الآحاد أو بعض الشعوب، ثم يحكم الملاحظة والإحصاء ويطيلهما إلى أن يخرج بدراسة صحيحة متميزة. إنه لا يعرف هذا النوع من الدراسة ولا يطيقه. وأسلوبه في دراسة هذا الكائن مثلا ً، أن يعمد إلى نفسه وإلى ما تجمع عنده من أوهام ومخاوف، ومحفوظات ورواسب مختلفة الأنساب، وقد يكون ذلك بيتا ً من الشعر، كما قد يكون حكمة قديمة، أو نصا ً من كتاب مقدس، أو رواية عن أحد الأنبياء، أو أحد الصالحين أو الواعظين أو الفقهاء، أو ملاحظة ناقصة جدا ً، أو إستنتاجا ً عقيما ً ليس له مقومات الاستنتاج، أو قد يكون إنفعالا ً عاطفيا ً خاصا ً. وحينئذ ٍ يصدر حكما ً نهائيا ً على الإنسان. وقد يضع حكمه في كتاب كبير يخرج به على الناس مع شئ كثير من الغرور. وهكذا هو في جميع أحكامه على حقائق الوجود المحيطة به.. يحكم ولا يدرس.

إنه يهرب من مواجهة الأشياء إذا أراد دراستها. إنه إذا أراد أن يراها، هرب من رؤيتها. إنه يحكم على الأشياء بلا رؤية ولا علم ولا ممارسة، كما يحكم على الله وعلى الغيب. إنه يصف الله و يحكم عليه، ويراه بالرواية والإعتقاد. وهكذا يصف كل شئ و يراه ويحكم عليه، حتى جسم الإنسان، حتى أخلاقه، حتى تأريخه.

ينفي الوحدة القانونية للأشياء

والتفكير العربي ضيق الصدر قصير الخطى لاهث الأنفاس. إنه لا يملك الطاقة التي تجعله يحيط و يـُحلق فوق وحدات الموضوع، حتى يهتدي إلى الوحدة العامة في ذلك الموضوع، وإلى الفكرة المشتركة فيه.

إن الشعوب المتأخرة في تفكيرها لا تستطيع التفكير الشامل. إنها تفكر دائما ً تفكيرا ً جزئيا ً؛ فالإنسان المتخلف لا يمكن أن يدرك في ذهنه معنى عاما ً للحقائق الكبرى كالإنسان، والحياة، والفكر، والعلم، والحضارة، والثقافة، والعدل، والحرية، وغير ذلك. لأن إدراك هذا المعنى العام يحتاج إلى فكر شامل، وثاب متحرك، ليستطيع الإحاطة بالمعنى المشترك بين جميع الوحدات. وإذا لم يكن الفكر بهذا الإتساع وهذه الإحاطة فإنه إذا إتجه إلى رؤية وحدة من وحدات الموضوع غابت عنه الوحدات الأخرى، فلم يقدر على إخضاعها كلها لمعنى مشترك. إنه لا يستطيع أن يرى بشمول، وحينئذ ٍ يكون جزئيا ً لا كليا ً. وهذا الإنسان الجزئي الذي يعجز عن الفهم أو عن التفكير الشامل، يرى الفرد من البشر أو الحيوان أو من المعاني فيدرك أحيانا ً بعض خصائص هذا الفرد الظاهرة، و لكنه يعجز عن الإدراك الكلي، فيعجز أن يلاحظ أنه يوجد شئ أو أشياء عامة يشترك فيها كل إنسان وحيوان، وأنه توجد آحاد معنوية، وعلمية، ومنطقية، يشملها كلها قانون واحد، وتتساوى أمام هذا القانون، وأن العلم بواحد منها يساوي العلم بها كلها.

إن الإنسان الجزئي لا يعرف الكليات التي يعرفها المتحضرون كالإنسانية، وكالثقافة، أو المدنية، أو المعرفة، أو القوانين العلمية والرياضية. إنه لهذا لا يستطيع أن يدرس شيئا ً ما دراسة علمية وفلسفية؛ وإنما تكون له مشاهدات فردية كمشاهدات الأطفال. إن الطفل لا يعقل كلية الأشياء، إنه يعقل أن هذا الفرد يسمى إنسانا ً أو حيوانا ً إذا رأى أحد أفراد الحيوان أو الإنسان؛ ولكنه لا يعقل المعنى الكلي لذلك. وقد عد عصر المنطق عصر تقدم كبير، لأنه نقل البشر إلى عصر الكليات بعد أن كانوا يعيشون في عصر الجزئيات. ولم يستطيع الإنسان أن يخطو بالحضارة خطواتها الكبرى إلا بعد أن تخطى عهد المعرفة الجزئية. إن الطبيعة كلية، كلية القوانين والأخلاق والظواهر. وإن الحضارة والعلم كليان لأنهما هما تفسير الطبيعة، ورؤيتها والتعامل معها بالممارسة والتسخير.

ماذا لو كانت الطبيعة فردية.. ماذا لو لم يدرك الإنسان هذه الكلية، كلية الطبيعة..؟

وقد عجزنا عن تصور الأشياء تصورا ً شاملا ً، وعن الحكم عليها حكما ً شاملا ً أو صحيحاً، لأننا لم نستطيع أن ندرسها دراسة كلية لنخرج منها بمعرفة كلية. لم ندرس الحضارة، أو الحياة، أو الإنسان، أو التاريخ، أو الشعوب، هذه الدراسة؛ بل درسناها – وعلى الأصح لاحظناها – ملاحظة جزئية لا يمكن أن تعطي إدراكا ً شاملا ً، فأصدرنا أحكاما ً غير صائبة، ولم نستطيع أن نقدم دراسات شاملة أو حقيقية عن أى شئ، بل ولم نتمكن من معرفة كليات الوجود و الحياة، ثم لم نتمكن من التصرف في ممارستها أو رؤيتها تصرفا ً حكيما ً لأن التصرف الحكيم يحتاج إلى تصور صحيح.

 

عبد الله القصيمي

من كتاب "صحراء بلا أبعاد"