ثورة النمو وتربية المراهق

يوسف إدريس ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

من المفروض أن الرجل أو المرأة كالشعوب، تمر بمراحل مختلفة لتصل إلى النضج أي إلى تكامل ملامح التفرد الخاص للذات وللوصول إلى القدرة على تكوين الرأي الخاص والنظرة الثاقبة الخاصة، والحل الخاص الذي بمجموعه وبمجموع قدرات أفراده وتفردهم يؤدي إلى ما نسميه أرقى المستويات الحضارية.

هذه المراحل التي تمر بها الشعوب والأفراد تشكل نوعين من السلوك: الغالب الأعظم هو النمو التقليدي شبه الروتيني، ولكن لابد لكي تتم عملية النضج من مراحل تحدث فيها (طفرة) أي ثورة بالمعنى العلمي الحقيقي لكلمة ثورة. فالثورة قفزة أو مرحلة من الحياة لا يمكن اجتيازها إلا بوثبة غير عادية تلك الوثبات التي تحدث في الإنسان فتغيره (نوعياً) وليس (كمياً).

إن الوجود البشري يبدأ (بثورة)، فالبويضة الأنثوية تظل مجرد خليه خاملة عاطلة إلى أن يتحد بها الحيوان المنوي وكأنما من اتحادهما يحدث انفجار ذري خلاق، ومن الخمول المطلق تبدأ في البويضة سلسلة متسارعة من التغيرات تحدث فيها ولها إلى أن تبدأ تنقسم إلى خليتين ملتصقتين، أو أحياناً (في حالة التوأم) منفصلتين, وكل خلية منها تظل تنقسم في شبه انفجار ثوري مفاجئ لتصبح بعد أيام قليلة ملايين الخلايا التي يبدأ بعضها يتخصص، ومن تخصص عام جداً (أكتوبلازم وأتوبلازم) وميزدورم إلى تخصص خاص يكون جنين الهيكل العظمي وجنين الجهاز العصبي والجلدي وجنين الأعضاء الداخلية.. وهكذا.

إذن هذه هي الثورة العظيمة الأولى التي يمر بها لإنسان وتصنع منه مشروع إنسان لا يلبث أن ينضج وبتوقيت دقيق متكامل بعد تدفق الهرمونات في جسد الألم حتى تحين الثورة الثانية الرائعة ثورة يقوم فيها الجسد – جسد الأم – بطرد هذا الكائن الذي تكامل واستوى عوده فيما يسمى بعملية الولادة، تماماً مثل الثورة التي تقوم في مملكة النحل إذا وجدت ملكة أخرى وتكون لها جيش من الرعايا, ويحدث العراك بين الملكتين الذي ينتهي دائماً بطرد الملكة الصغيرة وخلق (طرد) نحل جديد.

ولكن الثورة الثانية تكتفي بالطرد الجسدي فقط إذ تبقى بين الأم وبين الطفل حبال سرية خفية عاطفية ونفسية، بل وحتى مادية مثل (الرضاعة)، والطفولة هي المرحلة التي يظل فيها هذا الكائن المنفصل الجديد متصلاً معتمداً على الكائن الأصلي الأم, ويظل هذا يحدث إلى سن المراهقة.

حينذاك تحدث الثورة الثالثة في حياة ذلك الإنسان، ثورة الانفصال التام عن الأم أو عن العائلة أو بالضبط عن الوالدين. ولكي تحدث هذه الثورة يستلزم الأمر بالضرورة قوة طاردة عنيفة تفصل بين الطفل الذي نضج وكبر وأصبح من المستحيلات أن يظل عالة على أمه.. أو والديه. هذه القوة الطاردة العنيفة لن تأخذ شكل الأم تطرد طفلها من بطنها على هيئة تقلصات و(طلق) عنيف، وإنما تأخذ شكل تقلصات نفسية عنيفة (مصحوبة أيضاً بتغييرات هرمونية كالتي تحدث للأم تماماً في حالة تهيؤها لعملية الولادة). ولكن هذه التقلصات العنيفة يكون هدفها طرد الأم هذه المرة أو الأب أو الاثنين معاً من نفسية الطفل الذي كبر ونضج فأصبح من المُشل لحركته أن يظل ملتصقاً بأمه أو بوالديه أو بعائلته أو بالقائمين على أمره في وطنه أو بلده. هي إذن عملية طرد معاكسة للمجتمع من نفس الشاب المراهق، المجتمع بكل ما يسوده من علاقات وقيم وأنماط, المجتمع حتى لو كان صالحاً وطيباً ولم يقدم للشاب أية إساءة، إذ الهدف هو تكون (ذات) مستقلة، ولكي تكون مستقلة لابد أن يكون لها أحلامها الخاصة وسلوكها الخاص وتمردها الخاص وكرهها الخاص لكل ما هو كائن، ثورة الشباب إذن (أو ما نسميه المراهقة) هي الثورة الثالثة الأخيرة في حياة الإنسان منا، تلك الفترة التي تحدد ملامح  شخصيته والتي تضع اللمسات الأخيرة لشكل الرجل القادم المقبل، إذ سيكون على هذا الرجل أن يحقق كل أجنة الأحلام والرغبات التي تتكون في نفس هذا الطفل الذي بدأ فجأة يستطيل على الأرض ويصبح له مظهر الرجال.

ولقد ظل المجتمع فترة طويلة وهو جاهل بهذه الحقائق كلها، يطالب الطفل أن تكون له قيم وأخلاق الرجال السائدة، وإذا عن له أن يراهق ويقوم بثورته المهمة الثالثة. فعلى أبيه بالذات تقع مهمة أن (يقوم) فيه هذا (الاعوجاج)، في حين أنه ليس سوى عملية (الاستقامة) الحقيقية لشخصية ذلك الكائن الحي الجديد.

ومعظم أمراض الرجال لا تنشأ فقط عن طفولة تعسة محرومة قضوها, وإنما أيضاً من معاملة بالغة السوء والقسوة وعدم الفهم عوملوا بها وقومت بها ثورتهم الثالثة ثورة المراهقة، وما هي بمراهقة وإنما هي في الحقيقة عملية تأصيل لكائن كان قبل هذا مثله مثل الجميع وإنما بثورته الثالثة يؤكد وجوده الخاص الذي سوف يحمل بصماته الخاصة إلى الأبد.

ويخيل إلى أننا في بلادنا العربية أكثر شعوب الأرض جهلاً في مواجهة هذه الثورة الثالثة، إما بإجهاضها تماماً وقتل الشخصية المستقلة للرجل المقبل، وإما بالاستسلام تماماً لها بالتدليل والتلبية لكل رغبات هذا الرجل المقبل، لم ندرك بعد أنها ليست مسألة هينة نسميها فقط  مشاكل المراهقة، وما هي بمشاكل وما هي بمراهقة، وإنما هي ثورة ميلاد ثالثة لخروج الفراشة من الشرنقة إذا قوبلت بعنف أشد مما يجب اختنقت، وإذا قوبلت باستسلام ضعيف خرجت غير قادرة على تحمل مشقة المشوار الطويل.. مشوار الحياة.

أجل عيب هذه الأبوة أو الأمومة فينا أنها إما أبوة نحاول أن نتلاشى بها كل ما وقع علينا من قسوة ونحن صغار فنترك للطفل ثم للصبي الحبل على الغارب وكأنه كما يقولون (حيلة أمه وأبوه)، أن نفعل العكس تماماً وبقسوة ضارية نحاول أن نفرض على الطفل ثم الصبي أو الصبية من أبنائنا وبناتنا نموذجاً جديداً ورسمناه لهما، إما استيفاء للنموذج الذي نشأنا عليه، وإما تصوراً متزمتاً لما نعتقد أنه الصحيح في طريقة التربية.

ولكن بملاحظاتي الشخصية بدأت أرى الحالة الأولى هي التي تستشري وتعم حتى أصحبت مشكلة كل أم وكل أب أن (يخلف) والسلام. ماذا يفعله بهذه (الخلفة) كيف يربيه؟ كيف يواجه تصرفات ونزوات ومواهب كامنة فيه هو المسئول عن وجوده، فتلك قضية لا أهمية لها بالمرة.

والنتيجة أن لا تربية الأمهات موجودة في البيت وطبعاً في المدرسة إذ هي لم تفقد فقط دورا التربوي وإنما فقدت بالأعداد الكبيرة دورها التعليمي حتى بت أعتقد أن كل أجيالنا تحت 14 سنة تربى نفسها بنفسها، تربي نفسها (شيطاني).

وكلمة التربية، ولا أدري لماذا، مقرونة في أذهاننا بالزجر أو بالإكراه أو الجبر على سلوك منهج بعينه في الحياة, في حين أنها في حقيقتها يجب أن تستبدل في أذهاننا بكلمة (الرعاية)، فالمربي هو أساساً جنايني دوره أن يرعى الياسمين حتى يزهر وأن يعرف الفرق بين طريقة معاملة شجرة السنط من شجرة الجوافة, فالأطفال ليسوا مجرد أطفال، إنهم كائنات حية لا تتشابه أبداً، كل منها هو برغم شخصية إن كانت ترث بعض الخواص عن الوالدين والأجداد فهي لها (نوعها) المنفرد، وفي حاجة إلى أن يعي مربيها أو أبوها أو أمها بنوعها المنفرد هذا, ويفكر طويلاً في الطريقة المثلى لمعاملته إذا أخطأ والثواب إذا أصاب، إذا اكتشف اعوجاجاً في شخصيته كيف وبمنتهى الحرص والدقة يواجهه وسنده ليستقيم. إن عملية تربية شجرة مسألة في حالة إلى خبرة وإلى دراسة وتمرس شديدين فما بالك بمسئولية تربية امرأة أو رجل أذكى وأعمق وأغرب الكائنات الحية على الإطلاق؟

وبصراحة وأقولها وأمري إلى الله لقد كففنا عن تربية أولادنا وبناتنا تماماً منذ بدأنا ننفتح على عالم ما بعد الحرب، وتجتاح الشباب هناك موجات لا تلبث آثارها وأصداؤها أن تنتقل إلى هنا ونقف نحن حيارى ننظر ببله شديد لما يحدث، فهي مشاكل لم يواجهها آباؤنا ولا علمونا كيف نواجهها. لا عادت طريقة: اخرس يا ولد يا قليل الأدب أو الرن بالقلم تصح، ولا طريقة إطلاق السراح للولد أو البنت يصنع أو تصنع ما تشاء تصلح، انقطع ذلك الاتصال، أو بالضبط ذلك الحد الأدنى من الاتصال الواجب بأن يقوم يمتد بين الأجيال، إذ هو (كابل) القيم البشرية الذي يمتد لنتقل التراث ويضيف ويجعل من البشر بشراً أرقى كلما غور في أرض الحاضر والمستقبل.

وهكذا فالإنسان يكاد يموت من الضحك وهو يتفرج على أين وصلنا، إذ أصحبت القيمة التربوية الوحيدة المتفق عليها في مجتمعنا لنجاح التربية أو فشلها, لنجاح الشاب أو الفتاة أو فشلهما، هي موقفه في الثانوية العامة وبالضبط مجموعه.

وأكتب هذه الكلمات ومصر من أقصاها إلى أقصاها مشغولة بالتتميم على هذه القيمة، فليفعل الولد أو البنت أي شيء مادام سيأتي بمجموع هائل في الثانوية العامة، إذ إن ذلك المجموع لن يحدد رجولته وقيمه وأخلاقه ومثله العليا فقط، لكنه أيضاً سيرى المجتمع وعلى الفور إن كان فلان قد نجح في تربية ابنه أو أولاده أو فشل. أي وضع خطير صرنا إليه؟ أن ينتهي المجتمع لى القيمة الوحيدة الرفعية القيمة فيه أو التي تحدد درجة صاحبها، ليس فقط من النبوغ، ولكن أيضاً من السلوك ومن الأخلاق وهي مجموعه في الثانوية العامة أو نجاحه أو فشله فيها.

إنه لمشهد مرعب.

فأولاً طريقة التعليم عندنا قديمة ومستهلكة لا تمتحن في الطالب إلا قدرته على الحفظ أي هو في مجمله اختبار للذاكرة، والذاكرة ما هي إلا خاصية واحدة من خواص العقل الكثيرة جداً، وثانياً نحن نسير على نظم امتحانية واختبارية إرهابية تركها العالم الحديث كله وأصبحت فيه مدارس جديدة تطوير هائل وتغيير التعليم من وسيلة لملء عقل الولد بأكبر كم من المعلمومات والأرقام إلى نظام يعلم الإنسان وينمي فيه القدرة على الخلق والابتكار، أي القدرة على (استعمال) المعلومات الموجودة في الكتب وفي أرشيف العقول الالكترونية والميكروأفلام. الإنسان المتعلم، كما يجب أن يكون الإنسان المتعلم، أصبح هو ذلك القادر على ابتكار الحلول للمشاكل، ونظم التعليم في معظم أنحاء العالم تغير هدفها من تخريج آلات حفظ صماء إلى تخريج مبتكرين ومخترعين، باختصار أناس يقومون بأشياء غير الوظائف التي يمكن أن يقوم بها أي إنسان آلي وأي ماكينة حاسبة.

تصوروا الكارثة أن يصبح هذا المقياس المتعفن لنظام تعليم متعفن هو المقياس (التربوي) الوحيد في حياتنا.

إذا اجتازه الولد أو البنت بنجاح، فهو الملك أو الملكة قد توجا ونالا على آداء هذا الواجب البسيط، أبسط الواجبات في حياة حافلة مقبلة، نالا عليه كل ما تستطيع العائلة والمجتمع من حولهما منحه، وبأقصى ما يستطيعون من سخاء، إذا فشل وفي أغلب الأحوال لا يكون السبب (فساده) بقدر ما يكون من مشاكل نفسية بينه وبين والديه أو بينه وبين المجتمع لم يستطع حلها، إذا فشل لأنه ثار – بلا وعيه - على كرابيج الأوامر بالمذاكرة التي تنهال عيه حتى من البقال و البواب إذا فشل لأي سبب من الأسباب فقد حدثت الكارثة الرهيبة وارتكب (السقوط) الأعظم، يسقط من غربال الحياة. طبعاً لا أحد يقول له هذا، بل الجميع يحاولون مواساته في جنازة نفسه، ولكنه بحاسته الإنسانية البسيطة يدرك من خلال العيون والنظرات وأحياناً الهمس الذي لا يسمعه، يدرك أنه (خاب)، وأنه حثالة بشرية، وأن لا فائدة.

والكارثة أن امتحان الثانوية العامة بوقت, والشاب يجتاز أعنف مراحل ثورته الثالثة، أعنف مراحل مراهقته أن تواجه هذه الثورة البناءة المفروض أن تخلق وتجدد وتشكل مصير إنسان هو الذي سيصنع مستقبل أمة، أن تواجه بمؤامرة كونية على هيئة ثانوية عامة، هي في رأيي أبشع ما يصنع لتخريب نفوس بريئة بدلاً من رعايتها كي تجتاز الأزمة، إذا بها تواجه بمحاكمة عسكرية فورية وإما براءة رغم براءتها تشوه حتماً مقاييس وملامح داخلية، وإما حكم بالإعدام اجتماعي لا نقض فيه ولا إبرام.

وأنا لست تربوياً لا أعرف الحلول التربوية لهذا كله ولكن ما أعرفه حقاً هو أن مصر مليئة بعشرات من حملة الدكتوراهات في التربية، مئات ممن يدخل هذا الموضوع في صميم اختصاصهم، معنى هذا أنهم يرون هذه الصورة التي حاولت رسمها بسرعة مبكرة عشرات المرات، فكيف وهم العارفون يسكتون إلى الآن على هذه الجريمة، هذا الذي يسبب ضياعاً تاماً لشبابناً بمختلف طبقاته وفئاته هذا الذي يخرج لنا إذا أخرج أناساً كانوا آدميين، ثم أحلناهم نحن إما بجهلنا وإما بعلمنا وإما بطرقنا إلى ما نراه الآن معربداً في شوارع مدننا, فاغراً فاه ليخرج أقبح ما يقال في مدرجات كرتنا ويعوي في ظلام سينماتنا، يدمر نفسه ولو الود وده لدمرنا ودمر معه كل شيء.

 

يوسف إدريس

من كتاب "خلو البال"