أربع أقنعة

عماد ميشيل ٢٢ أكتوبر ٢٠٢٠

أربع أقنعة

 

خرج من المياه كالكراكون, ذلك المارد العملاق المائي الذي هزمه برسيوس لينقذ حبيبته أندروميدا, لم يكن الكراكون ذلك المخلوق الخيالي الأسطوري من الميثولوجيا اليونانية, بل فقط فارس مدرع, تغطي الدروع جسده كله, وتبرز عضلاته الفائرة, ويتحرك سيفه في الهواء ليشقه لشطائر من الوجود, يمشي فتهتز الأرض تحت قدميه ويتأرجح الترس في يسراه والمياه المنهمرة منه تحفر نهراً خلفه, هنا بلغه تمساحاً هائلاً وأنقض بأسنانه العملاقة عليه, إلا أن الدروع القوية أحالت دون بلوغ الأسنان لحم جسد الفارس المختفي خلفها, خرج الهواء ثقيلاً عبر خوذته المعدنية وهو يهوى بسيفه على رأس التمساح ليشقها نصفين, وانساب الماء المنسحب مع الدماء عبر تضاريس سترته المعدنية لتتلألأ عليها الشمس بشموخ, وسار ملوحاً بسيفه في استعراضات أخافت المارة, وأبعدتهم عنه, وقد انعكست الشمس على ترسه لتغشي عيون الناظر إليه, فبدت سلطته شديدة وسطوته فريدة وهو يجوب الأرض دون أن يقوى أحد على الوقوف أمامه..

على الطريق ملقى ذلك الأبرص, البعض يلقي له القليل من الفتات, والبعض قطعاً معدنية, والبعض يتجاهل وجوده كما لو كان هواءاً, إلا أن أحدهم لم يلمسه قط منذ زمن يدري قدره, فلو تجرأ أحدهم وفعل سيصاب مثله, معظم المارة يرمقونه بشفقة اعتادها, وأدمنها حتى صار يخاف اقتراب الناس منه كإنسان حقيقي بروح ونفس بغض النظر عن الجسد النجس, لقد امتهن برصه واحترفه, وبغض الناس في سره دون علمه وتسلح ببرصه كقناع يقيه اقتراب الناس من شخصه الضعيف اليائس البائس, وادعى القداسة في دناسته وأمطر المارة بعبارات الدعاء بالبركة, الناس تراه مريض لكنه يائس بائس لا يقوى على الحياة, بل قد يتمنى الموت أحياناً ولكنه لا يقوى على فعل قتل نفسه, ولم يجرؤ أحد مع كل هذا من الاقتراب منه, فقط يعيش وحده على أكسجين شفقة البشر, وخبز احسانهم.

يقف على مقربة المهرج, ذو الوجه المدفون في المساحيق البيضاء, ذو الأنف الأحمر الكبير الذي يخفي تجهم الأنف, ذو الشعر الأحمر الطويل الذي يغطي تكشيرة الجبهة, ذو الابتسامة الحمراء الكبيرة على فمه التي تغطي حزنه, يظهر سعيداً حتى لو تجهم, ويبدو فرحاً في عز وقت الألم, هكذا قناعه الذي نجح فيه, الكل ينظره ويسعد, ويضج بالضحك, ويقهقه في هستيريا, وهو يلاعب الكرات الملونة بين يديه في مهارة, وهو يقود عجلة ذات طارة واحدة, وهو يلوح بيديه الطويلتين في حركات بهلوانية مبهرة, كل من يشاهده يضحك, لكن كل ضحك العالم الذي يثيره حوله لا يخترق مساحيقه إلى داخله, وعندما ظهرت وشجعت البهلوان توزعت نظرات الناس بين المهرج وبينها.

عروس بحر فاتنة تخلب الألباب بشعرها الطليق الذي يغطي أجواء الكون, بثغرها المبتسم العذب, بوجنتها المغرية للقطف, بأنفها الدقيق, بوجهها الحليق, حورية هي تمثيل للجمال وتجسيد للروعة المتخذة شكلاً, كل من يراها يصاب بسهم فتنتها, هي تعلم ذلك وكل من يراها يعلم ذلك, وهكذا تسير الأمور في ظاهرها, أما في الباطن فهي تخفي أمراً خطيراً وهو نفسها تحت مساحيق جمالها, وتجهيز جسدها ليبدو بهذا الشكل المثير, تركت المكان واتجهت إلى حيث يقف الفارس ونظرات الشهوة والافتتان وخيبة الأمل تلاحقها, ومن جانبها نظرات الظفر والتمكن والاكتفاء الذاتي تملأ عينيها, وصلت إلى حيث الفارس, وتلاقت عيناهما.

عبر عدستها الملونة إلى زجاجة خوذته الواقية عبرت نظرة مزيفة من قناع لقناع, من قناع القوة إلى قناع الفتنة, إنه يحتمي من ألمه النفسي ومن حرمانه ومن نقصه في السلوك القوي, هذا ما يحفظ له وجوده, وهذا ما يحميه ضربات القدر, إلا أن هذا نفسه هو ما يجعله مزيفاً أمام نفسه, سيعيش عمره بأسره دون أن يعرف نفسه, ودون أن تنمو شخصيته في الاتجاه السليم المقدر له في الطريق الصحيح. التمساح القتيل عجز عن بلوغه, بدون الدرع سيموت قبل أن يعيش, الأمر الذي يجعله يفضل الزيف عن الحقيقة.

إنها أيضاً تحتمي من ألمها الذي يجيش به صدرها وحدها, تعلمه وتنأى بحمله وتصر على كتمانه في صدرها, وتدعي ألماً آخراً مفهوماً كسوء الجو أو كانعدام الأخلاق, وتحتمي خلف فتنتها وعطورها ومساحيق تجميلها من الحياة الحقيقية, وتسعى لإبهار الجميع, فلو هزمت الجميع في قلوبهم فهذا قد يعني أنها على حق, أو على الأقل أنها ليست وحدها مخطئة, بطابور المفتونين الملقى خلفها, ونظرات الناس تشهد بتلك الحقيقة, هي لن تترك حصنها الذي أمن لها الحماية من تقلبات القدر مهما حدث.

الأبرص يهرب من ألمه ويلقي باللوم كله على البشر, ويبتعد عنهم مبرراً نفسه بأنهم من ابتعدوا في البداية, لكنه في الحقيقة لن يذكر من بدأ في الابتعاد هو أم الناس. يختفي خلف قناع برصه ليتقي شر الناس, إلا أن الاقتراب والانغماس مع الناس هو ملاذه الوحيد بعد وعيه وصدقه مع نفسه, حتى لو تطلب الأمر ألا يلمس أحداً, حتى لو تطلب الأمر أن يعيش حياة بظروف خاصة, فقط لا يجب أن يعتزل الناس.

والمهرج أيضاً يهرب من ألمه ويضحك في عز حزنه, ويشترك مع الفارس والحورية والأبرص أنه لا يعرف نفسه الحقيقية خلف قناعه ولا يراه الناس على حقيقته.

يمر عليهم رجل طبيعي أنيق ذو سترة وربطة عنق, ويرى جميعهم ولا يتأثر, ويثير الدهشة في نفوسهم جميعاً؛ إذ لم يتأثر ويشفق على الأبرص أو لم يتدله إعجاباً ويفتن بالحورية ولم يخاف ويرتعد من دروع الفارس, أو يضحك ويقهقه من حركات المهرج ومساحيقه. ويشير ذلك الرجل إشارة ذات معنى, فيحدث أغرب ما في الموضوع.

هبت رياح قوية اقتلعت دروع الفارس ومساحيق المهرج, وهطلت مياه غزيرة طهرت نجاسة الأبرص ونزعت مساحيق تجميل الحورية, وفجأة رأى الجميع الأربع شخصيات على حقيقتهم..

هجمت حيوانات الطريق على الفارس الذي ركض منهم والدموع تطفر من عينيه, وتورات الفتاة التي كانت فاتنة من كل الأعين في زاوية مظلمة من عار كونها هي, وبكى المهرج في حرقة وظهرت دموعه واضحة في قلب الرياح, وأهال الأبرص الطين على وجهه ليمنع الناس من جديد من الاقتراب منه.

أجسادهم اللحمية لا تتحمل واقع الحياة, أقنعتهم وفرت لهم حياة غير حقيقية, ولا سبيل لحياة حقيقية مع الأقنعة, هذا هو الدرس.. بعد نزع الأقنعة وبقاء الحقيقة, تبدأ الحياة, إلى كل من يحتفظ بأقنعة تناسب كل موقف, إلى من يحتفظ بتنكرات لملابس المهرج والفارس والحورية والأبرص, اقلع عنها, إلى من يزيف الواقع ليسكن الألم, واجه الألم, اترك الزيف, تحمل وتشدد وكن رجلاً, وازرع مكان الأفكار المضللة أفكاراً طاهرة منيرة. اترك الحفل التنكري واركض لبلد العراة واقطن جنة عدن حيث لا أوراق للتين وامكث مع ذاك الوحيد في العالم الذي يحبك ويريدك بعريك, واتكل عليه بكليتك.

 

عماد ميشيل

25 مايو 2010