معاناة سائلٍ بين المسيحية ديانة.. والمسيحية حياة..!

مجدي فكري ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

كنت أتمنى أن يكون هذا الموضوع، موضوعاً مستقلاً يُنفرد به في كتاب خاص.. أو يطرح للمناقشة.. غير أني وجدته أكبر من أن يناقش أو أصعب من يكتب فيه، لهذا أجملته في فكرة مختصرة وهي المسيحية ليست ديانة.. بل حياة!!

فهنا عندما نتحدث عن المسيحية ليست ديانة بل حياة.. قصدت مجملها في أن الرب يسوع لم يؤسس ديانة مسيحية – كما يظن البعض – بل أعطى حياة للبشرية...

ومن هنا علينا أن نبحث عن أصل المسيحية.. ومتى تحولت إلى ديانة وكيف؟..

ولماذا تحولت إلى ديانة.. وتأثير المسيحية ديانة على المسيحية الحياة.. لهذا اخترت زمن معين، ومكان معين ليكونا المحور الأساسي في الموضوع الذي نناقشه.. فمن هذا المكان وفي مثل هذا الوقت تحولت المسيحية الحياة إلى ديانة... وأضحت إلى هذا الوقت هي الظاهرة..!

فالزمان عام 313 ميلادية.. والمكان في ميلانو

فعندما انتصر قسطنطين على منافسيه أصدر المنشور سنة 313 المعروف "بفرمان ميلانو" الذي كفل حرية العبادة للجميع من مسيحيين ووثنين.. وأود أن نعود إلى الكنيسة – جماعة سرية مختفية – قبل هذا الوقت.. فكانت تحتفظ بتعاليم سيدها.. وتحيا بهدوء في مواجهة التيارات والاضطهادات على ما يقرب من ثلاث قرون أو أكثر، دون أن تعلم ماذا ينتظرها...؟؟

بعد هذا الفرمان نعود، فنعلم أن أول مبنى بني للمسيحية وأطلق على هذا البناء اسم "كنيسة".. وبالطبع كان هذا الوقت في غضون القرن الرابع بداءة من عام 313، عندما تحالف الشيطان وأعوانه ضد كنيسة الله الحقيقية.. فالترهيب لا يجزعها.. والخوف لا يجزعها.. والخوف لا يثني من عزمها.. والاضطهاد يزيدها إيمانها.. لذلك قام باستخدام سلاح آخر وهو أن يثني عليها.. بأن يجعلها دين والغرابة لهذا الإطراء والمدح جعلها دين دولة.. وليست أي دولة.. بل دين الإمبراطور.. وهكذا انقلبت الموازين.. ولك أن تتصور تلك الفاجعة والتحول الغريب والسريع للمسيحية الحياة، الذي نجح فيه إبليس وأعوانه..

ولنرجع قبل هذا التاريخ، لم تكن الكنيسة معروفة إلا بجماعة المؤمنين الذين كان لهم الشركة في المقابر والشقوق وتحت الأرض وعلى الجبال.. ولم يكن لها بناء خاصاً، أو شكل معيناً ولم يكن لها تنظيمات أو شكليات كما هو اليوم (هذا مع وضع في الاعتبار بتنظيم بسيط في الشكل الإيماني لا يخرج عن روح المسيح الذي تركها للرسل.. دون الأخذ بالمظاهر الشكلية).. فعاشت المسيحية في قرونها الثلاث الأولى قوية في إيمانها مستمدة قوة إيمانها من ذاك الذي قال "وأبواب الجحيم لن تقوى عليها".. ولكن أرادت المشيئة في أن يظن البعض أن أبواب الجحيم قويت عليها.. ولكن لم ينالوا ما ظنوه.. فأصبحت المسيحية المتواضعة البسيطة في إيمانها هي الدين الرسمي للدولة.. ولا نعلم في أي موضع في الكتاب المقدس ذكرت إشارة أو حتى تلميح من بعيد أو قريب عن أن الرب يسوع انه أعلن إمكانية أن تكون المسيحية دين.. ودين الدولة.. بل نعلم أن كون مملكة ولكن ليست هنا المملكة فهي "ليست من هذا العالم" فالمسيحية هي حياة كما أعلن سيدها "أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل".

ولك أن تقف صامتاً أو تضرب كفاً بكف عندما تعلم أنهم أخذوا المسيحية الخاشعة الآمنة من مكانها ليجعلوها ديناً لدولة الإمبراطور.. ففي وقت ليس ببعيد عن هذا التاريخ كانت الإمبراطورية تدين بالوثنية وكان لها من العظمة والشأن لا يضاهيها أي شيء آخر.. فهي تتبارى وتتباهى بهياكلها الشامخة الجميلة في البناء والزخرفة، وتماثيلها والمنحوتات التي لا تقارن في الروعة أي مثال آخر ولك أيضاً أن تعرف عن هذا الدين الوثني بالآلهة المتعددة ومدى كانت عظمتها عند الرومان وافتخارهم بها كما نعمل في الكتاب من سفر أعمال الرسل "عظيمة هي أرطاميس الأفسسين الإلهة العظيمة والتمثال الذي هبط من رفس." (أع 19: 34)

وهذه هي الصورة المختصرة عن الوضع السائد عن الديانة الوثنية من قبل الحكام والأباطرة.. فكيف تصبح المسيحية التي لم يكن لها شكل أو بناء أو عظمة، كما كانت للوثنية تصبح الآن الدين الرسمي. لذلك كما كانت عليه الوثنية من فخر ومجد وجبروت هكذا ستصبح المسيحية في ثوب جديد، غير التي كانت ترتديه منذ أكثر من ثلاث قرون.. وهكذا أرادوا أن يخلعوا عنها ثوب العفة والطهارة والتواضع.. وألبسوها ثوباً آخر أطغى عليها جمالاً وحساباً وجاها.. فألبسوها ما ليس لها.. ولس هذا ثوبها!!

وحدث ما حدث، فالقوم يريدوا للإمبراطور ديانة مثلما كانت عليه ألهة الوثنيين بهياكلها وكهنتها ومزخرفاتها.. فبنيت الكنائس بشكل تناسب عظمة الإمبراطور والإمبراطورية.. ويجب علينا أن لا ننسى بعض الجماعات السرية لا تعترف بهذا التطور الجديد الذي حدث على المسيحية.. وأخل بها من بعض التعاليم التي كانت عليه بالأمس.. فظلت تلك الجماعات السرية وهي الكنيسة الخفية أو قل أنها المسيحية الحياة تمارس عبادتها وحياتها لله دون أن يشعر بها أحداً.. لهذا أهاج إبليس عليها مرة أخرى بعد أن دفع دفعة قوية لأن تصحب دين دولة.. قام وأغار عليها الإمبراطور ليقول:

"يجب إلغاء جميع الجماعات السرية – الكنيسة"

ولنا وقفة حتى ولو تلميحاً.. على أن البعض اعتبروا أن الله استخدم هذا الإمبراطور ، وأهالوا له شأناً عظيماً وإنه من الله ويعرف الله.. ولكن لنا حديث في هذا ، أن تسمع عن حياة الإمبراطور أنه قام ليقاتل أعداء له ويجند قواته لهدم أعداء له، لزيادة سلطانه ونشر نفوذه والقضاء على مناوشيه ومعانديه.. وهذا هو الإمبراطور قسطنطين.. الذي قالوا أن الله ظهر له في رؤيا أو حلم وأعطاه شارة وهي علامة الصليب.. وقال له بهذه العلامة ستنتصر.. وهنا نتأوه.. هل نصرخ لكم أو عليكم مستغيثين بالحق.. كيف يكون هذا، أن الله المحب الرءوف الذي تكلم من خلال الابن الرب يسوع ليقول لبطرس رد سيفك إلى مكانه لأن الذين يأخذون بالسيف، بالسيف يقتلون، كيف يكون رب هذا القول هو نفسه رب هذا القائل له أنك بإشارة الصليب، التي كانت ولا تزال إلا فداء للبشرية ورحمة وخلاصاً من الظلمة إلى النور بالرب يسوع.. هذا الإشارة جعلوها تستخدم للقتال والانتصار.. (ملحوظة: سوف ننشر في الخاطرة التالية بمنتصف هذا الشهر رأي الأب الراحل متى المسكين في هذا الأمر)

فالصليب.. ورب الصليب هم أبرياء من الافتراء.. كفاكم أنكم بعتم الحق وتريدون أن تعودوا بنا إلى الضلال كما فعلت المسيحية المظلمة في عصور الجهل والظلام بالحروب الصليبية التي كانت وصمة عار في حينها.. كيف يكون الصليب مًسخر لحساب الضلال.. كفاكم.. والأغرب من هذا أنه انتصر هذا الإمبراطور بهذه الإشارة..!! فأصبح هذا الإمبراطور قديساً تكلم له الله في رؤيا الليل.. وأنا لست ضد شخصية الإمبراطور.. ولكن عوني أن أجد رداً لماذا وضعوا له هذه الهالة الكبيرة من الإيمان وغشوها من الخارج بأحاديثهم الملفقة.. هذا الإمبراطور الذي حول – هذا بحسب اعتقادي – مجرى هاماً للمسيحية الحياة إلى مسيحية دين.. وقالوا أنه أراح المسيحية من اضطهادات دامت أكثر من ثلاث قرون ولكن أقول ياليتها استمرت هذه الاضطهادات.. فهذه الاضطهادات هي التي جعلت المسيحية قوية في إيمانها.. فيا ليتها بقيت لما كانت عليه فهذا يثقلها ويقويها ويجعلها أكثر حياة.. ياليتها ظلت لما عليه على أن يصبح دين دولة وتخرج من مضمون الإيمان.. فالأباء الذين استشهدوا وضحوا بحياتهم لتقف المسيحية.. وتظل مسيحية!!

فوضع المسيحية من هذا التاريخ لإنشاء مباني، وجاء وعظمة تتمشى مع الإمبراطور والإمبراطورية، لهو ضلالة لا يسكت عليها، واعتبرت تلك الجماعات المسيحية الأمينة هم الهراطقة.. فأن ما يعتبره البعض اليوم هرطقة، هو في الحقيقة صُلب الإيمان الأول والرجوع بالكنيسة في بساطتها الأولى لقرونها الثلاث.. إنما قد تعتبر ضلالة لمن يحاول الخروج عن الاتجاه السائد الشائع بين الأغلبية المطلقة.. هذا ليس مقياساً للضلال والإيمان فاليوم أصبحت الحقيقة في صدور المؤمنين بها هي ضلالة مضلة!! على أن تصبح الهرطقة اليوم هي الإيمان السائد بين العامة وعلى قلوب العميان تتربع.. لذا الخروج عن المسيحية الأولى هو الضلالة، وما ارتميانا به أننا تركنا اجتماعاتنا كما لقوم عادة (كما نسمع من البعض) وخرجنا عن المسيحية.. لأننا نريد ونطلب من الرب أن نعود بها إلى ما كانت عليه وهو الإيمان القويم.. إيمان هؤلاء الذين ضحوا بحياتهم لتكون المسيحية حياة، وليست جاهاً وعظمة ومباني ومزخفرات وسلطان وجبروت و.. و..

فالجماعات تعتبر بدعة وضلالة لو خرجت عن فكر الله وعن المكتوب.. ولنا أمثلة كثيرة في أن جماعات كثيرة خرجت خارج الكنائس الإسمية، وللأسف معظمها في فشل وضلال ما بعده ضلال ولو ظلوا في أماكنهم لكان أرحم لهم.. وهذا ما يفعله إبليس في كل وقت لكل عصر أن يضع شيئاً مزيفاً يطابق الأصل المصنوع حتى تنخدع فيه قلوب السلماء.. ولكن من هذا كله تصدر صورة أمينة خفية لا يعرفها إلا الأمناء ويعودون إليها ويرجعون بها إلى بداية المسيحية الحياة وليست إلى بداية المسيحية الديانة...

ولهذا أحاول أو أطرح جاوباً لسائلٍ.. فأشكر إلهي لأني الآن لم أكن بروتستنتياً أو أرثوذكسياً ولهذا قد تساءلت يوماً يا ليتني ما فتحت عيني فعرفت كل هذه الطوائف.. ولكن اشكر ربي لأني عرفت مسيحي وربي ومنه وبه صرت مسيحياً.. ولكن مادام هناك الذات والأنا ستظل طوائف كثيرة وانقسامات أكثر.. ومن هنا نبدأ معاناة السائل في أن يجد إجابة.

فإن المسيحية الديانة أثقلت على المسيحية الحياة فأرهقتها وكلفتها الكثير للتمييز بين المسيحية الديانة والمسيحية الحياة.. فلم يتركوا للسائل أن يستوضح المعالم الصحيحة.. بل باختلاط مزجوا الأمور، فلم يعرف أحد من السائلين إن كان يتبع المسيحية الديانة أم يتبع المسيحية الحياة..؟ بل سيظل هذا على مر العصور.

فأبوا أن يقفوا على مسيحيتهم الديانة بل خلطوها بالمسيحية الحياة ومن هنا كان عدم الفهم والاختلاط، أين الحقيقة.. ويا ليتهم لو وقفوا على مسيحيتهم الديانة لأراحوا أنفسهم وأراحوا السائلين.. لكن هذا الصراع القائم منذ بداية الكنيسة الحقيقية والإسمية، وبين المسيحية الديانة والمسيحية الحياة، سيظل مستمراً إلى أن يأتي إعلان الحق.. وسيظل السائلين يسألون مدام يرون حتى الآن المسيحية الديانة ترتدي المسيحية الحياة..

فهل من مُجيب يجيب الطالبين فيكفيهم من التخبط والحيرة؟!

أين هي المسيحية الحقيقية؟!

وربما قد كان هذا الكتاب محاولة لإيجاد إجابة للسائلين.

 

 

مجدي فكري

من كتاب "محاكمة الكنيسة الإسمية"