الغرفة

عماد ميشيل ٢٢ أكتوبر ٢٠٢٠

الغرفة

(عن مواجهة الألم واعتياد رؤيته حتى تنكسر شوكته)

 

 

جالساً في غرفة تامة الإظلام بشكل تستحيل معه الرؤية، فلا أرى يدي من السواد الحالك الدامس، كل حركة لي تعني احتمال الارتطام، كل خطوة تحمل توقع التعثر، لا أدري هل توجد للغرفة باب، ولو كان هنالك فأين هو، ولو عرفت مكانه فلا أعلم إلى أين عساه يؤدي. هل هناك شباك؟ ما كنه الأشياء التي معي بالداخل؟ أسئلة عديدة كثيرة لا تنتهي.

سمعت همساً لا أعرف مكان مصدره، يتجاوز أذني كالفحيح إلى عقلي:

-بجيبك الأيمن قداحة.

تمتمت:

-حسناً جداً.

وغاصت يدي اليمني في جيبي الأيمن، وأخرجت القداحة، وعبثت أناملي في تفاصيلها دون أن أراها، وشططت حجرها، وانبعث الوهج الناري، أغمضت عيني في ألم، ثم عدت أفتحهما تدريجياً.. حركت القداحة فرأيت أمامي على المنضدة شمعة مطفأة، أشعلت فتيلتها، وأطفأت القداحة.

أمسكت الشمعة، ودرت بها في الغرفة أتفقدها، وسال سائلها الحارق على يدي، ولم أكترث، فثمن النور هين ويمكن احتماله بسهولة. على اللهب الأحمر رأيت أشلاءاً آدمية متناثرة في كل مكان، فوضى من الأشياء والممتلكات الغريبة المتناثرة على الأرض، سكاكين مغروسة في الحوائط، بلطات تشق البلاط، بقع الدم على الأشياء كلها، وبرك من المياه الآسنة، وأطعمة أنتنت، و..

وسمعت صوته..

هسسسسسسسسس..

ما هذا؟! إنه ثعبان عملاق، حجمه يماثلني، لا لا، حجمه أكبر من حجمي. الأمر لا يحتمل. سأضيع بهذه الطريقة. سأنتهي. يجب أن أركض..

برز فجأة من الظلام وكأنه نشأ من عدم، وكأنه واللاوجود شيئاً واحداً. فح في وحشية وابتسم في جذل، كيف يمكن للمرء أن يميز ابتسامة ثعبان؟ أبارتفاع طرفيّ ثغره لأعلى؟ حتى ابتسامة الثعبان كريهة، فهي تعني استهزائه بي وسخريته مني النابعة من كرهه الشديد لكياني، وحتى لو كان بطريقة ما يحبني، فهذا يعني أني إذا صادقت كائناً كريهاً بهذه الطريقة أنني كريه أنا الآخر. ابتسامته لم تزدني سوى فزعاً. تأملته، أسود مخيف، جاحظ العينين، ظاهر النابين، غائر الفم. فح في عنف يهدف إلى إثارة هلعي وإفراز الرعب في عروقي ليعلن سيطرته على حياتي، ولم يحول عينيه المشقوقة طولياً عني، وأصابني الفزع بالفعل، وأنا أناور وأحاول الركض، ولكن إلى أين؟!

عاد برأسه للخلف، ثم تفل على الأرض من جوفه ساعد ذراع آدمي، تأملته وشعرت أني رأيته من قبل، ودققت، ثم نظرت ليدي اليسرى، فلم أجدها، لقد ابتلع ذلك الثعبان ساعدي الأيسر، وجهت الشمعة جهة جسدي، وطفقت أنظر بفزع إلى ما أخذه الثعبان، ولم يكد النور يفارق نابا الثعبان إلى جسدي، حتى انقض عليّ، والتف حول جسدي، وطفق يعتصرني جاثماً بقوة على صدري، محافظاً على اتصال عيناه بعيني، ثم هبط بنابيه يخترق لحمي، ويبث سمه في عروقي، لقد اعتدت على الشعور بذلك الألم، لكني لم أفهم مصدره، كنت أشعر بالوجع دون أن أرى نابي الثعبان، بسبب الظلام، الآن فقط أدركت سر الألم الذي لم أفهم سببه، إلا أن جرعة الألم ازدادت هذه المرة، ويبدو أنني اعتدت السم الذي أحصل عليه قهراً في دمي، وما عدت أقدر على تمييزه عن دمي، هممت بالصراخ، والهرب، لكني سمعت ذاك الهمس يكرر:

-لا تهرب من ألمك، واجهه، وتشجع.

نفذت الأمر، وأخرجت نابيه من جلدي، وطفقت أحملق في الثعبان، وفكرت، إنه جزء مني، وهذا يعني أنه لو قتلني فسيموت. إذن لا يمكنه القضاء عليّ وإلا أفنى نفسه، ومن طبيعة شره، لا يبدو لي وكأنه يحاول الانتحار، لقد حافظ على وجوده معي كل تلك السنوات متستراً بالظلام فقط لأنه يحب الحياة، إنه يحتاجني ليوجد. أنا ببساطة أغذي وجوده، إنه الطفيل الذي يتغذى عليّ. إنني أبوه، وهو رعبي الذي يخيفني، أنا من ولدته في أقصى أوقات ألمي قسوة. وهو من بعد تلك الولادة يتغذى يوماً بعد يومٍ ويكبر متغذياً على خوفي وألمي.

ربما يجب أن أقبله، لا أحبه، لكن أقبله، ربما يجب أن أروضه، أعلمه أنني لن أخاف منه بعد الآن، ولن أتجاهل وجوده كأن لم يكن مثل ما مضى من عمر دون أن أعلم بوجوده من الأساس، كيلا يميتني بسمه ببطء دون أن أشعر.

طويلاً حدقت في الثعبان حتى اعتدته ولم أعد أخافه، لقد آلفته، على أي حال لا يمكنه أن يؤذيني، فلو فعل لن يوجد، وجودي الضعيف يعطيه القوة، ولو فنيت سيفنى معي، إنه لن يؤذيني، فموتي سيعني ضياعه. لقد علم أني أعلم، لن يمكنه إخافتي بعد الآن.

انفك ذيله عني، وسرت في الغرفة أنظر وأتفقد محتوياتها، لربما أجد وحشاً آخراً، لكني لم أجد. فقط أشلاء الآخرين التي بقت معي من سوء معاملاتهم لي، وعدم غفراني لهم، وبرك الخطية الآسنة، وعظام البغض وعدم التسامح العفنة، مقتنيات العالم اللاهية، فوضى النظام والوقت وتنظيم الأولويات، و..

مهلاً! إنه مفتاح النور، أضأت المصباح، وغمر النور الغرفة، و.. ورأيت كل شيء.

 

عماد ميشيل

29 يونيه 2010