المركب

عماد ميشيل ٢٢ أكتوبر ٢٠٢٠

المركب

 

في لحظة من عمر الزمن, وجدت نفسي قبطان لمركبي الصغير.. في مركبي الشخصي أشياء كثيرة لا أستخدمها, وممتلكات لا أفهمها ولا أدرك الكيفية المثلى لاستخدامها, وحاجات لا أراها.

وجودي على سطح المركب دون مقصورة القيادة, دفعني للاغتراب عن نفسي الحقيقية, إنني أمثل –أدعي وأخلق لنفسي صورة غير أصلها- صورة الحياة على السطح في الوقت الذي أترك فيه نفسي الميتة في الداخل, لو لم أعد للداخل سأنتهي, يجب أن أعيد ضبط الاتجاهات لأسير في الطريق المقدر لي السير فيه.

تجاورني مراكب مثلي ونبحر معاً نفس الطريق لبعض الوقت, ولكننا نترك بعضنا لننضم لمسارات أخرى مختلفة تسير فيها مراكب أخرى, ومع مرور الوقت ننسى المراكب التي قضينا معها كل الوقت وقتاً ما, قد نحتفظ بموجات الاتصال الخاصة ببعض من أحببناهم من ساكني المراكب الأخرى. مركب أو اثنين نقضي الرحلة معهم متجاورين, نحتك ببعضنا, نثير شرراً, وقد نوشك أحياناً على قلب مراكبنا رأساً على عقب, ولكننا نتماسك في آخر لحظة.

خلال الرحلة غرس فيّ من حولي فكرة أني فاشل, لن أقوى على عمل أي شيء, الفكرة التي ساقتني أميالاً في طريق من الفشل الحقيقي, وكرغبة ملحة في ترك السيطرة على حياتي الفاشلة قررت اعتزال العالم, وقلت:

-أنت يا هذا, فرد الطاقم, تعال كتفني.

-لماذا؟

-لأنني لا أقوى على الحركة, وحتى لو قويت وتحركت سأنكسر وأنتهي, ليس مقدر لي النجاح في تلك الحياة, كتفني.

-ولكنك ستعيش بهذه الطريقة حياة أقل من مستوى البشر, ستعيش كضيف دون المرور على حقيقة الحياة.

-ليس من شأنك.

وكتفني فرد الطاقم, ومر عليّ الكثير من السفن الأخرى, التي ألقت عليّ بمخلفاتها وقمامتها, فلوثتني وأفسدت ملابسي وأهانتني, وبعد لم أتحرك لأصد عليهم الصاع صاعين, إنني بهذا الحال أعيش مقهوراً وقد قيدت نفسي بنفسي داخل نفسي, يجب أن أدمر من ضايقوني, وأن أذل من استعبدوني, وأن أحتفظ بصورتي قوية, وهكذا بعد مرور الكثير من الوقت, غضبت صائحاً:

-يا فرد الطاقم, فك وثقي.

-هكذا يكون الكلام.

-البسني تلك الحلة المدرعة.

-لماذا يا سيدي؟

-لأصد كل ضربات الأغراب دون أن يعرفوا ماهية مشاعري الحقيقية, وطبيعة ملامحي المتأثرة من أفعالهم المشينة.

-ولكنك بهذا لن تكون أنت!

-أنا سيطمر في الداخل, لا تقلق عليّ, سأكون أفضل من الصورة القديمة.

-وليكن. أنا عبدك على أي حال.

وألبسني فرد الطاقم, وهددت البحار وصعدت لأعلى نقطة فوق المركب, وتحديت الرياح, وناطحت السحاب, وقد أخفيت نقط ضعفي عن كل الناس المقيمون حولي, وعن الله, وحتى عن نفسي.

ثمة طوربيدات غبية تسير في خطوط مستقيمة يمكنني تفاديها بسهولة وثمة طوربيدات تتعقبني مهما ناورتها وتصيب المركب بأضرار فادحة آخر الأمر.

علاقتي بجيراني عادية, أحيا وحيداً في بحر شاسع تجاورني سفن بعض الوقت ثم تنصرف. سفن كبيرة تجذبني ومراكب صغيرة أجذبها, غواصة خفية تتلصص عليّ, باخرة عملاقة تمطرني بنيرانها, مركب شراعي للصيد وسفينة سياحية فاخرة تجاورني على نفس سطح الماء واحد المستوى.

من حين لآخر أجد رسالة داخل زجاجة مجهولة المصدر, أعتبرها في بعض الأحيان رسالة من قائد البحار العظيم.

أتتني الآن رسالة, أخبرتني أن الصدق مع النفس أول الطريق والخداع وشراء ذات أخرى غير ذاتك الحقيقية لن ينتهي بك إلى شيء, سوى الضياع من كل شيء حقيقي في الحياة, وتخبرني الرسالة بوضوح أن أخلع حلة الحماية, لأن الناس يرون فيّ ما هو خيالي, وهذا يحبطهم.

وفي يوم ما هبت رياح شديدة, كسرت المركب بعد أن أثنته وأوقعت الشراع بعد أن قطعته, وعاندت الرياح في ذات قوية, وكبرياء طاغ, ووقفت في وجهها في تحدي, وشموخ, فقط لم أدر أنني ولدت بخصر رفيع يمكن إحاطته بين حلقة سبابة وإبهام يد طفل صغير, لقد خدعتني الحلة الواقية, وأوهمتني بقوة ليست فيها, وهكذا كسرتني الرياح في عنفوان وجبروت, وظلت ساقي مرتبطتان بأرضية المركب في شموخ, وقد انغمست أنفي في أوساخ الأرض في مهانة.

كيف هذا؟ كيف يحدث هذا؟! صرخت في ثورة:

-أصدقائي, الأعزاء, أين أنتم, أحتاجكم.

أتى البعض ولم يتمكنوا من رؤيتي قائلين:

-أين انت؟

-أنا هنا.

-أين؟!

-مكسور.

-وماذا تريدنا أن نفعل؟

-اصعدوا على متن قاربي, وساعدوني.

قالوا:

-لا أفهم.

-لا يمكنني.

-كيف السبيل؟

-وما الفائدة المرجوة التي قد تعود عليّ.

-ومن سيراني وأنا أصنع تلك الحرب الرهيبة الغير مرئية؟! من سينصبني ملكاً؟! ومن أين سآخذ مجداً خلف هذا الفعل؟

أجبتهم:

-أعني أن تنسى نفسك واحتياجاتك, وتفكر في مساعدتي, وتكرس وقتك الآن في إراحتي, ويمكنك أن تفعل ذلك لو فكرت في أنك بمساعدتك لي ستعطي لحياتك معنى وهدف وغاية وفائدة, والسبيل لذلك يا أصدقاء الطفولة أن تحبوني بحق محبة حقيقية بلا رياء تبغي الصالح لي أكثر من صالحكم ولا تنتظر مقابل, والفائدة التي ستعود عليكم من هذا الأمر هي سعادة العطاء والبذل الغير قابلة للوصف, والمجد الذي ستحصلون عليه ليس من هذا العالم, وهو مجد أكبر مما تفتكرون فيه لأن لا يعلمه ويقدره سوى الله, صدقتكم تلك لم ينظرها الناس وهذا هو أقوى ما في الأمر.

انصرفوا, دون كلمة إضافية, وانحرف المركب عن مساره, ودخل حيز مياه ضحلة, ودخل نطاق جزيرة من آكلي لحوم البشر, لقد انتهيت لا محالة. وصعد للمركب قائد من قبيلة آكلي اللحوم, وصاح:

-إنه مسكين وحيد مكسور, لا يمكننا أن نأكله, لا يمكننا أن نأكل المكسور, أخلاقنا لا تسمح لنا بهذا الأمر.

وجمع قطعتيّ, وصنع من مجموعة من الخوص جبيرة تجعلني في صورتي الأولى, وقال:

-لن يمكنني إعادتك لصورتك الأولى, لكنك لو تمكنت من البقاء على قيد الحياة أثناء تناولك لمجموعة منتقاة من المأكولات, وممارستك لعدد من التمارين قد تتمكن من أن تعود كما كنت, وربما أقوى بشكل ما من صورتك الماضية.

وأوقفني, وقال:

-هيا, انصرف من هاهنا, وإلا ستنتهي سريعاً, بيد آخرين.

قلت متوجعاً:

-ولكنني أتألم.

-لابد من الألم, لا سبيل آخر.

-أليس من مسكن.

-المسكن قد يبقيك نائماً, أو قد يحيد عينيك عن طريق النمو, أو قد ينسيك هدفك, وقد يتحول هدف وجودك لتفادي الألم والهروب منه بدلاً من تحقيق نفسك وغايتك.

-أشكرك يا سيدي الزعيم.

أومأ برأسه قائلاً:

-هيا انصرف.

صعدت إلى غرفة القيادة, وأمسكت الدفة, وانصرفت إلى حيث أقضي القليل من الوقت الجيد, حتى وصلت لتلك الاستراحة. هنا المراكب تقضي وقتها في استرخاء وراحة دون السير في طريقها دون نمو أو حركة, بقيت في المركب وأتتني زجاجات الخمر وكل أنواع المسكرات إلى حيث أقطن داخل المركب, وصعد أحد التجار إلى المركب, وقال لي:

-تؤلمك بالطبع تلك الجبيرة.

-هذا صحيح.

ترك في يدي قنينة صغيرة, وهو يقول:

-هذه ستزيل ألمك تماماً.

ثم سألني:

-أتريدها؟

فكرت في الألم, ثم في كلمات آكل اللحوم, ثم نظرت للقنينة, ثم لجسدي المكسور, ثم قلت:

-أنا أستحق الراحة, لم أخلق نفسي بهذا الشكل, ولم أصنع خصري بهذا الشكل, ربما تسبب آخرون في تلك العاهة لكنني غير مسئول عنها. وليكن احقنني بمحتويات تلك القنينة.

وحقنني, وهو يقول:

-ثمة خدمة مجانية تقدم مع تلك القنينة.

-يا لك من كريم!

وأخرج ثعباناً ضخماً, وهو يقول:

-هذا الثعبان سيخدمك, ويجلب لك ما شئت من أشياء من مختلف أنحاء المركب.

وطرق على الجبيرة في عنف, ثم انحنى على الأرض ممسكاً آلة حادة وقطع بها شيئاً من الأرض, ثم انصرف.

خفت من شكل الثعبان في البداية, واستنكرت منظره, ولكنني اعتدته مع الوقت, وقد جعلته خادمي, توقفت عن تناول المقويات والمأكولات والقيام بالتمارين, وبعد وقت يسير انكسرت الجبيرة متخذة من المكان الذي طرق عليه التاجر الذي أعطاني الثعبان وحقنني بالمسكن مبتدأ الكسر, ووقعت من جديد على الأرض, ورأيت نصفي الأسفل متمرمغ في دمه, وذهلت..

ثم نظرت الثعبان فوجدته يتناول جزءاً مني في ركن المركب في تلذذ, وفهمت الأمر, لقد خلع التاجر إصبعاً من قدمي ربما للذكرى قبل أن ينصرف, وقد ترك الثعبان معي, ليأكلني قطعة قطعة على مهل, إذ أنني لا أدري مدى شره, وقد سكنَّتني القنينة عن مدى إدراكي للألم, فما عدت أشعر بأعضائي المهترئة المتآكلة.

وحاولت الاتجاه في غضب للثعبان عندما أدركت الحقيقة, إنني أفتقد نصفي الأسفل مع الكثير من أعضائي, ثم أنني في حاجة للثعبان الذي يأكلني على مهل -مدعياً أنه صديقي, وأنه ينفعني- لمواصلة الحياة.

حقاً ليس كل من له أنياب حادة كآكل لحوم البشر ينتوي أكلي وليس كل من له ابتسامة عذبة كالتاجر يقصد نفعي. انتهى الثعبان من وجبته واتجه نحوي على مهل, ادعيت أنني لا ألحظه, فالتف على خصري مكان الكسر وعصر الجرح فهمر دماً غزيراً, شربه في تلذذ, ثم انقض بأنيابه على صدري وغرزها في لحمي وسال سمه عبرها إلى دمي, وعرفت عندها السر, فقد شعرت مع سمه بلذة لحظة أعقبها تخدير شمل أنحاء جسدي, فلم أعلم ما ضاع وما تألم من أعضائي, واحتضنني الثعبان بعدها, ناعم الملمس بارد الجلد, وعاش كطفيل على جسدي المتألم المنهك, وكأنه ينقصني ألم, حتى يتطفل هو عليّ.

هو يسعى لدماري الجزئي اللحظي, لا يهمه كم يستغرق من وقت, طالما سيفعل ما انتواه آخر الأمر.. التسبب في موتي. اعتصرني الألم والوجع, وزاغت عيناي في كل اتجاه متردد متقلقل في جميع طرقي لا أستقر على وجهة, ودار مؤشر بوصلتي يرمح في الاتجاهات الأربعة.

-يا قائد البحار العظيم, انقذني.

-الق عنك الثعبان.

أمسكت الثعبان من رأسه في غضب, وألقيته في عرض البحر, مطوحاً به في غضب, وألم.

وترددت صيحاته الصامتة:

-ستحتاجني لتخفف من وطأة ألمك.

نفضت رأسي في عنف, قائلا:

-ماذا الآن يا قائدي؟

-حول موجة تردد جهاز استقبالك على موجتي, أنت لم تضبطها قط لكنك ستجدها واضحة جداً, ثمة ثلاث ترددات رئيسية تردد نفسك وصوتك أنت, وتردد الناس, وترددي أنا.

زحفت إلى حيث المقصورة, وضبطت الجهاز, وقلت:

-ضبطته يا سيدي.

-تحمل ألمك في رضا وسرور ولا تهرب منه, فهو المضاد الحيوي لشفائك, ولن ينفعك أي مسكن, مهما زادت قدرته. هيا نظف مركبك من الثعابين الصغيرة التي ولدها ثعبان الخطية القاتل, والق كل آثاره في عرض البحر.

زحفت, ورأيت الثعابين المتناثرة في أنحاء المركب, وصحت:

-إنها عملية صعبة, أحتاج مساعدة.

-اطلبها تجدها.

-إنني أطلبها الآن.

ترددت الصيحة في أنحاء البحر:

-هنا خدمة تطهير المراكب.

صحت:

-لكن أيها القائد, ليس لتلك الخدمة بطريق كفاحك الذي تريدني عليه!

-ألا ترى أنها ستغير رؤيتك لي ولنفسك وللناس من حولك؟ يجب أن تسمح لفريقهم بجرد مركبك, وأن تريهم كل ما هو حولهم من أشياء داخل المركب, وأن تنير لهم ما لا يرونه من خفايا داخل كيان مركبك.

-حسناً.

واستقبلت فريق الفحص والكشف, وبدأنا عملية البحث والتدمير, وأثناء عملية الفحص, وجدتني أزداد قوة. كلمات فريق الفحص تشجعني, ونداءت الثعابين المقتولة تقهقرني, ولكنني أسير قدماً في الطريق, حتى أتى اليوم الذي حصلت فيه على ساقي بشكل صحيح, لم أعد كاملاً كما كنت بالضبط, ولكنني في الطريق, ووقفت في قوة أمسك بدفة القيادة, عندما سمعت همساً من جهاز الاستقبال:

-سلم لي الدفة.

تجاهلت النداء وكأنني لم أسمعه.

-سلم لي الدفة.

ادَّعيت أنني أعمل على شيء ما, وأغلقت الجهاز في حركة بدت طبيعية, وكأنني سأخدع قائد البحار العظيم. اصطدمت رسالة في زجاجة بالمركب, التقطتها, وفضضتها وقرأتها:

-لن تنتهي الآلام في هذه الحياة, ستسببها لنفسك بنفسك من تصرفاتك وسيسببها لك آخرون, والثعابين, وسأسببها لك لو لم تترك لي الدفة, لأنني أحبك, وهلاكك يكمن في قيادة دفتك بمعرفتك المحدودة بأصول الإبحار وطبيعة البحار, لو استمررت في طريقك بإمساك الدفة ستهلك.

عدت للمقصورة, وناولت الدفة لقائد البحار العظيم, ولكنني أعطيته نصفها, على حين بقى نصفها الثاني في يدي أنا.

وهوى الرعد يضرب الجانب الجنوبي من المركب, وفقدت التحكم في المركب, و..

-ما كان ليحدث هذا لو استمعت لي.

-ولكن يا سيدي, لماذا تعاملني أنت أيضاً بهذه القسوة؟

-أنظر أمامك.

نظرت فإذ بهوة شلال سحيقة تقود للعدم, وسمعت القائد يكمل:

-هلاكك مرادف لغوي لابتعادك عني, كم يلزمك من وقت لتدرك هذا الأمر.

تركت نصف الدفة, وقاد القائد الدفة بكاملها, أخرجت المنظار المكبر من المقصورة, ورمقت عبره الأرض اليابسة المنتظر بلوغها آخر الرحلة, والتي تخلو من كل ألم ووجع, وعبر منظار الإيمان المكبر غمرتني سعادة الرجاء بأن الحياة الأخرى أفضل من هذا الأمر. وخرجت أتعامل مع من جاوروني من مراكب, أتطلع للأفق في شغف, في عيني نظرة حب افتراضية لكل ما أراه.. كان يجب أن أداوم على اتصالي بقائد البحار العظيم, وعلى استخدام المنظار المكبر لأراه بعين الإيمان, وعلى قراءة دستوره الذي تركه لي والذي يخبرني حقائق عني وعنه وعن العالم الوقتي الذي أحياه والأبدي الذي سنحياه, وعلى تطبيق ما أعرفه وما أختبره مبرهناً عن قناعاتي مع علاقتي مع الناس بمحبة, وعلى ترميم ذاتي الحالية, وكره ثعابين الخطية, وعلى تسليم حياتي للقائد.

 

عماد ميشيل

4 يونيه 2010