"سمات ومعايير النضج النفسي" 3 (الحدود الصحية والسليمة في العلاقات)

"سمات ومعايير النضج النفسي" 3 (الحدود الصحية والسليمة في العلاقات)
  • اسم المؤلف مشير سمير
  • الناشر مشير سمير
  • التصنيف مشورة وعلم نفس
  • كود الاستعارة 129/2

 


  نبذة مختصرة عن الفصل الثالث من هذا الكتاب: 


 وهو بعنوان 3-الحدود الصحية والسليمة في العلاقات


 


ماذا لو قمتَ بالاتصال تليفونياً بصديق لك فأنهى المكالمة مباشرة معتذراً بأنه منشغل ولا يستطيع الحديث معك الآن، هل تقبل ذلك بصدر رحب؟ ماذا لو أن صديق لك يبدو أنه يخفي أمر ما خاص به عنك ولا يريد الإفصاح عنه، وحين سألته عن هذا الأمر أجابك بأنه لا يريد أن يتحدث عن هذا الأمر، فهل تقبل ذلك بصدر رحب؟ ماذا لو اتصل بك صديق يخبرك أنه يرغب في زيارتك هذا المساء بعد العمل، بينما أنت لديك بعض الالتزامات المنزلية التي كنت تخطط للعمل على إنجازها طوال المساء ولا تريد تأجيلها. هل تعتذر لصديقك هذا بطريقة طبيعية دون أن تشعر بالحرج؟ماذا لو لم أستطع ذلك؟ ماذا لو لم أقبل تصرف الآخر بصدر رحب؟ هل هذا خطأ؟ هل هذا صحي؟ ما هي الحدود هنا؟ نأمل في أنك تستطيع أن تجد الإجابة في هذا الكتيب، وهو الكتيب الثالت من سلسلة "سمات ومعايير النضج النفسي" والتي نشرنا الجزأين السابقين منها العام الماضي (اضغط هنا للاطلاع عليهما).


يبدأ الكتيب باستعراض يوم في حياة تفتقر إلى الحدود الصحية، حيث نرى فيها الخواص التالية:


1. عدم القدرة على رفض ما يجب رفضه.


2. منطق الضحية في التفكير والإحساس والتصرف.


3. التعود أو الاعتياد على تحمل مسئولية الآخرين بدلاً تحملهم مسئولية أنفسهم.


4. الشك بالنفس والخوف الشديد من المواجهة.


وقبل أن الحديث عن الحدود الصحية في العلاقات وترسيمها، يتعرض الكتيب لمقدمة هامة جداً عما يُسمى بـ"النظام الأبوي" أي نظام العلاقات الرأسي السلطوي غير المتكافىء والمفتقر للندية، والتي تهئ مناخ ضار جداً بنمو ذاتية الفرد وبالتالي حدوده السليمة في العلاقات (كما كان واضحاً بالمثال السابق).


ثم يضع الكاتب التعليق الهام التالي:


"الفردوس قد اختفى بسقوط الإنسان، ففى السقوط تشوهت علاقة الإنسان بالله وبنفسه وبالإنسان الآخر أيضاً، مما نتج عنه فجوة كبيرة فى العلاقات الإنسانية التى بدورها جعلت من محاولة الدخول فى علاقة صحية أمراً صعباً ويحتاج لجهد كبير، لذا لم تعد علاقة آدم بحواء كما كانت قبل السقوط فإذا كان الإنسان فى علاقته مع نفسه يجد صعوبة فكم بالحرى عندما يأتي مع إنسان آخر في علاقة، فحتى فى أقرب العلاقات الإنسانية – علاقة الزواج – نجد فيها صعوبة فكم بالحرى باقى العلاقات. فأى علاقة فى هذه الحياة فيها صعوبة ما لكن توجد درجات فى الصعوبة. ومع هذا هناك ما يسمى بالنجاح فى التغلب على بعض الصعوبات، هناك النضج، هناك النمو نحو علاقات سوية. لذا يمكننا القول أنه لا توجد حالة يكون فيها الإنسان بلا حدود، حتى فى الزواج، الحالة التى يكون فيها الإنسان بلا حدود هى عندما ينتفى كونه إنساناً. لكن هناك حدوداً ضعيفة أو حدوداً قوية، إذ لدينا درجات فى الحدود فلا يوجد شىء اسمه "اللاحدود" إلا عندما يكون لاإنسان. فوجود الإنسان يضع ضرورة حتمية لوجود الحدود. إذن الحدود مطلوبة فى أى علاقة فى هذه الحياة."


 


وهكذا ينتقل الكتاب إلى ترسيم أربعة حدود أساسية للإنسان في علاقاته الصحية، كالتالي:


1- الخصوصية


بادىء ذى بدء لابد وأن نوضح أن الخصوصية ليست مضاد للصدق والشفافية، فالخصوصية أو السرية لا تعنى المراءاة. فمن الطبيعي للإنسان أن يكون له درجات ودوائر من الخصوصية تتسع أو تضيق بحسب اختياره الشخصي، فمن الممكن أن يكون للشخص صديقاً واحداً فى إحدى دوائر علاقاته الحميمة بينما فى دائرة أخرى أوسع ثلاث أشخاص، وفى دائرة أكثر اتساعاً وأقل خصوصية خمس أو ست أشخاص آخرين، وهكذا. فالدوائر العلاقاتية متدرجة، وبالتأكيد سوف ينعكس هذا على مساحة إفصاحه عن نفسه وانفتاحه مع الآخرين. فالإنسان يستطيع فى كل دائرة من هذه الدوائر، حتى غير الحميمية، أن يكون صادقاً وشفافاً بمعنى أن لايعكس شيئاً ما ليس فى داخله أو شيئاً مضاداً ومختلفاً عن حقيقة ما بداخله وكأنه يرائى أو ينافق الآخر دون أن يضطر أن يكون كتاباً مفتوحاً للجميع. فإن كان إنسان فى وسط مجموعة من الناس عددهم مئة شخص فهل معنى أن يكون شفافاً وصادقاً أن يشارك بكل شىء عنه؟ أو هل يعني الصدق والشفافية أن يكون كتاباً مفتوحاً مقروءاً ليس له أي مساحة من الخصوصية؟ بكل تأكيد ستكون الإجابة "لا". لكن بالرغم من وجود مئة شخص فى هذه الدائرة الواسعة من علاقاته فهذا ليس معناه أن يَدعّى شيئاً ليس فى شخصيته أو يظهر لهم ذاته بصورة هى عكس وضد ما يبطنه فى داخله. فالإنسان يمكنه التعبير عن نفسه وأن يظهر خارجياً ما يتطابق مع ما بداخله (أى عدم الزيف والمراءاة) على اختلاف علاقاته من شديدة الحميمية والخصوصية إلى العامة والسطحية، دون أن يكون كتاباً مفتوحاً أمام الجميع.


 


2-  الندية والاستقلال


من سمات النضج والحدود السليمة أن نقبل في علاقاتنا بالآخرين أنهم مختلفون ومستقلون عنا وإنه ليس عليهم أن يكونوا مثلنا سواء في التفكير أو الانفعالات أو في رؤيتهم للأمور أو في التصرفات، دون أن يؤثر ذلك في وجود علاقة سوية متزنة معهم.


ويرجع المفكر المسيحي والمربي اللبناني المعاصر كوستي بَندَلي هذا الأسلوب الأسطوري - حسب وصفه - لامتلاك للوالدين للأبناء لأحد أربع أسباب:


1. الشعور بالقيمة والأهمية في الحياة.


2. الإحساس بالسيطرة على شيء ما في الحياة.


3. تحقيق ما عجزوا هم عن تحقيقه في الحياة، فما لم يستطع الوالدان تحقيقه في الحياة ينجبوا أولاداً ليحققوا لهم ما عجزوا هم عن تحقيقه.


4. ضمان الاستمرارية والخلود في الحياة من خلال الأبناء


 


إذن من النضج أن يقبل الإنسان أن الشخص الآخر، حتى شريك الحياة، هو ند ونظير مستقل مكافئ له، ولا يعمل على تذويب شخصيته فيه تحت شعار الجسد الواحد على سبيل المثال، بل النضج هو في أن يشجع الإنسان هوية الآخر المتمايزة على أن تصبح هوية مستقلة لا تذوب فيه، ويسعد بها دون أن يشعر بتهديد لذاته. كما أنه يسعد ويفرح بأن للآخر هوية مختلفة دون أن يشعر  بالتهديد من اختلاف الآخر عنه.


وهنا نرى تحريف جديد لبعض المفاهيم الروحية المسيحية عن معنى "الجسد الواحد في الزواج" واستغلال لهذا المعنى السامي في تذويب شخصية الآخر ومحوها في شخصيتي.


 


وعلى الجانب الآخر فإن الندية والاستقلال تمكننا من أن نحتفظ بيننا وبين الآخر بالمسافة والحدود التي تميز كوننا شخصيتان ولسنا شخصية واحدة - حتى في الزواج كما قلنا سابقاً - والتي تعفي الشخص بقدر الإمكان من أن يتحمل الضرر الذي قد ينتج من اختيارات الآخر الخاطئة. فهذه المسافة، أو لنقل الحدود الشخصية لكل من الطرفين تحمي أي من الطرفين من الاختيارات الحرة الخاطئة والقرارات غير الصائبة للطرف الآخر. هذه المسافة تكفل له أن لا يتحمل بقدر الإمكان الضرر الذي قد يقع عليه جراء اختيارات الشخص الآخر. مثلما في حالة الزوج المدخن والزوجة التي ترفض التدخين داخل المنزل، فلابد لها هنا أن تستخدم المسافة الآمنة والتي تفصل بين شخصيهما بطريقة أو بأخرى لحماية نفسها وأولادها من مخاطر "التدخين السلبي".


 


إذن كل إنسان راشد يملك حرية التقرير والاختيار وحق إدارة حياته الشخصية.


 


3- المسئولية


من منطلق حق التمايز والاختلاف والاستقلال، ومن منطلق حرية التقرير والاختيار وحق إدارة الحياة الشخصية، من هذه المنطلقات يصبح الإنسان مسئولاً مسئولية كاملة عن نفسه وعن حياته، كما شرحنا سلفاً، حتى أنه يعطي حساباً عن حياته كوكيل عليها


إن المسئولية الكاملة للإنسان عن حياته كوكيل عليها تعني أن أكون:


مسئول عن أفكاري وعما أسمح له بالدخول إلى عقلي (كل ما أشاهده وأقرأه وأسمعه).


-         مسئول عن استخدامي لعقلي وأيضاً عن تغييبي لهذا العقل وإعطاءه أجازه.


-         ومسئول عن تحليل كل شىء والوصول لاستنتاجات وخلاصات.


-         مسئول عن كلماتي.


-         مسئول عن مشاعري وانفعالاتي.


-         مسئول عن قراراتي واختياراتي وسلوكياتي.


-         مسئول عن التخطيط لأهدافي والعمل على تحقيقها.


-         مسئول عن اختياري لعلاقاتي ولمن أحب وبمن أتزوج.


... إلى أخر تلك المسئوليات الشخصية.


 


أيضاً المسئولية تعني أن الشخص الراشد لابد وأن يتحمل تبعات ونتائج اختياراته الحرة


وهنا أيضاً نجد تطبيقاً للحدود غير السوية وغير المتزنة في العلاقات. فعندما يتدخل إنسان ما في حياة إنسان آخر للحيلولة بين تحمل هذا الآخر لنتائج ما قد تسبب فيه، فهذا عملُ فيه تعدي واضح واعتراض لقانون السببية لن يخلو غالباً من وقوع أضرار (عواقب/ نتائج) ما في المستقبل حتى وإن كانت نظرتنا نحن الإنسانية ترى عكس ذلك، حيث أن التدخل أو الاعتراض هذا هو أيضاً في حد ذاته فعل مسبب لنتيجة أخرى بدوره. ونحن نجد خير مثال لذلك هو تدخل الأم المفرطة الحماية أو المدلِلة للابن في حياة ذلك الابن، في كل مرة يجب عليه تحمل مسئولية ما، أو تحمل عقاب أو عاقبة ما نتيجة لارتكابه خطأ معيناً. فإن تدخل الأم للحيلولة بين تحمل الابن مسئولياته وعواقب أفعاله في الحياة تحت الشعار الوهمي للحب والخوف عليه، أو حتى تدخل الأم العادية لمنع الابن، أو تدخل الشخص أو المُحِب لمنع المحبوب من تحمل نتيجة حقيقية صعبة لخطأ ارتكبه، إنما يؤدي مثل هذا التدخل إلى أن يصير هذا الابن أو المحبوب إلى أحد ستة أحوال أسوأ:


1- إما أن يصير شخص غير مسئول.


2- أن يصير شخص اعتمادي.


3- أن يصير شخص مصاب بالإحساس بالنقص والقصور والعجز. فحين يُمنع الشخص من أن يتحمل ثمن أو تبعات ما فعل ويحمل شخص آخر العواقب نيابة بدلاً منه فغالباً ما تصل إليه الرسالة بأنه شخص أقل من أن يتحمل شىء، أنه أضعف من أن يتحمل "أنه ناقص، قاصر، عاجز"، فيخرج هذا الإنسان وهو عاجز عن أن يواجه الحياة بمفرده.


4- أن يصير شخص استغلالي أناني وربما نرجسي؛ لأن الآخرين أصبحوا خداماً لما يريده.


5- أن يصير شخص انفعالي مندفع، يفتقر إلى ضبط النفس. فالشخص الانفعالي الذي لا يضبط نفسه هو شخص لم يتحمل مسئوليته منذ وقت الطفولة.


6- أنه، ببساطة، يستمر في ارتكاب الخطأ طالما لا يكلفه ثمناً (لا يتعلم من أخطاءه). فإن كان الإنسان عندما يخطىء لا يدفع أي ثمن فما يمنعه إذن من أن يخطىء.


 


4- الرؤية الموضوعية للآخر


إن الشخص الناضج يستطيع وهو يرى وينظر إلى الحياة وإلى الآخرين من عينيه أن يراهم كما هم على حقيقتهم دون تعرضهم للتحريف والتشويه من خلال منظوره الذاتي. وهذا يعني أني أستطيع أن أرى الآخر كما هو دون إسقاط خبراتي الشخصية ورؤيتي الشخصية عليه، كما أني أيضاً أستطيع تحرير الآخر من توقعاتي عنه ومنه، ليكون كما هو وليس كما أريده أن يكون.


إن تصوراتي وانتظاراتي الذاتية إنما تجعلني لا أستطيع أن أرى الشخص الآخر كما هو بل أنه يكون سجيناً لرؤيتي عنه، مما يشوش العلاقة معه ويجعلها غير حقيقية، إذ أن الشخص الآخر نفسه يصير مشوهاً وغير حقيقي بالنسبة لي. ولذا من النضج هنا أن يستطيع الإنسان أن يخرج من ذاته ومن تصوراته وانتظاراته الذاتية ليرى الآخرين كما هم بدون أو بحد أدنى من التشويه، وأستطيع أن أتعامل معهم من منطلق من هم حقيقة وليس من منطلق رؤية ذاتية.


إن احترامي وقبولي للآخر يستند أساساً على أنه كائن مخلوق على صورة الله مساوٍ لي، فقط وليس شئ آخر. ومن هذا المنطلق أستطيع أن أمارس علاقات ناضجة تخلو من التشييئ والاستغلال، والمطالبة والطرح.