الوحدة.. والعزلة.. والصمت

أكثر من كاتب ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

الوحدة الإنسانية
إن الوحدة هي حقاً من أكثر التجارب الإنسانية انتشاراً، ولكن مجتمعنا المعاصر جعلنا نشعر كثيراً بها إلى درجة غير اعتيادية. ففي أثناء زيارتي مؤخراً إلى مدينة نيويورك كتبت ما يلي عن الوحدة التي اختبرتها هناك:
"أنا جالس في قطار تحت الأرض ومحاط بأناس صامتين مختبئين وراء جرائدهم أو يحدقون بعيداً في عالم تخيلاتهم الخاصة. لا يتكلم أحد مع الغريب، ويظل وجود شرطي مناوب يذكرني بأن الناس لا يهمهم أن يساعدوا بعضهم بعضاً. لكن عندما أحيل النظر إلى جدران القطار المغطاة بالدعايات لشراء المزيد من المنتجات، أجدني أمام المناظر التالية: شباب وشبات وسام يقضون وقتاً ممتعاً في عناق لطيف، ورجال ونساء يلعبون ويبتسمون بعضهم لبعض في قوارب شراعية سريعة الحركة، ومستكشفين مغرورين يمتطون الجياد ويشجعون بعضهم بعضاً على الإقدام على المخاطرة، وأطفال لا يعرفون الخوف وهم يرقصون على شاطئ ساطع بالضياء، وفتيات فاتنات في استعداد دائم للخدمة في طائرات ومراكب بحرية. هذا وفي الوقت الذي يسرع بي قطار تحت الأرض من نفق إلى آخر، وأنا منتبه بخوف إلى نقودي، أشعر في قرارة نفسي بأن الكلمات والصور التي تزين عالمي المخيف تتكلم على الحب واللطف والرقة في العلاقات وعلى أناس فرحين يعيشون معاً بعفوية!".

إن ما يهددنا حقاً هو وحدتنا الإنسانية هذه التي نشعر بها وهي متأصلة جداً فينا، ونستصعب كثيراً مواجهتها ونخترع في الغالب خدعاً بارعة جداً لنمنع أنفسنا من تذكرها. أما حضارتنا، فقد أصبحت اليوم متقدمة جداً في وسائلها لتفادي الألم، لا الألم العضوي حسب، بل الألم الذهني والعاطفي أيضاً.

الآب هنري نووين
من كتاب "السعي إلى الأعماق"

دعونا نرسم صورة انطباعية عن مثال لخوف من العزلة، متطرف بالرغم من أنه ليس بغير معتاد في مجتمعنا، وهو ما نراه في الأنشطة الاجتماعية التي تحدث في المنتجعات الصيفية. دعونا نأخذ عينة منتجع نمطي يقصده الميسورين من الناس على شاطئ البحر ليقضون إجازتهم، ومن ثم لا يجدون مهرباً لهم في العمل ولا دعماً لهم عبر الشغل.
من الأهمية بمكان بالنسبة لأولئك الناس أن تستمر طاحونة الحياة في الدوران من خلال حفلات الكوكتيل. بالرغم من حقيقة أنهم يقابلون نفس الناس في الحفلات كل يوم ويجرعون نفس المشاريب ويتكلمون عن نفس الموضوعات، أو في الواقع لا يجدون موضوعات للكلام، المهم ليس ما يقال لكن أن يستمر الكلام بأي شكل. الجريمة الشنعاء هي الصمت، لأن الصمت وحدة وعزلة ورعب. لا يجب أن يفرط المرء في الإحساس بما يقوله ولا يعطيه كبير معنى أو أهمية: يبدو أن تأثير ما تقوله يكون أعظم ما يمكن لو لم تحاول أن تفهم. ويجتاح المرء إحساس غريب بأن هؤلاء الناس يخافون من شئ ما جميعهم – ما هو؟ كما لو كانت الحفلة هي احتفال قبّلي أو رقصة ترقصها الساحرات لإرضاء إله ما. ثمة إله أو بالأحرى شيطان يحاولون إرضاءه؛ إنه وحش العزلة الذي يخيم على المكان وكأنه الضباب القادم من البحر. ولابد، على أية حال، من أن يواجه المرء هذا الوحش المرعب الذي ينشر الفزع في أول نصف ساعة عندما يستيقظ المرء في الصباح، ومن ثم فعلى المرء أن يفعل كل ما في وسعه كي يتجنب هذا الوحش فيما بعد. بشكل مجازي، يحاول الناس إرضاء شبح الموت بوصفه رمز الانفصال المطلق النهائي والوحدة الخاتمة والعزلة عن كل بني أدم.

رولو ماي
من كتاب: "بحث الإنسان عن نفسه"

"أن الإنسان يهرب من نفسه عندما يحاول أن يعيش تماماً خارج نفسه في البحث عن الملهيات distractions. فالإنسان يبحث دائماً عما يلهيه. فحياة اللهو و الانشغال Distraction هي الشيء الوحيد الذي يعزينا عن الإحساس الناتج عن مواجهة نفوسنا ورؤية حقيقتها وشعورها بالتعاسة."
بليز باسكال
من كتاب: "الأفكار"

"عندما يتلامس الإنسان مع نفسه بدون الله فسوف يدرك حالة اليأس التي هو موجود فيها وتكمن في أعماق نفسه. وعندئذ فهو لا يستطيع أن يتحمل هذا اليأس، لذلك يهرب الإنسان من التلامس مع نفسه ويحاول الإنسان أن يتخلص من هذه النفس التي يكمن اليأس فيها
عندما لا يستطيع الإنسان أن يتخلص من نفسه يزداد لديه الإحساس باليأس، وعندما يزداد هذا الإحساس باليأس لديه لا يجد الإنسان شئ يفعله للتخلص منه سوى الهروب من نفسه "
سورين كيركجارد
من كتاب: "المرض حتى الموت"

الصمت
إن الطريق الأول نحو أن نشرب كأسنا يكمن في الصمت.
قد يكون هذا بمثابة المفاجأة لك، حيث أن الصمت يبدو كما لو أنه لا يـُفعل فيه شيئاً، ولكننا وبالتحديد في الصمت نأتي إلى المواجهة مع ذواتنا الحقيقية. إن أوجاع حياتنا عادة ما تغلبنا للدرجة التي تجعلنا نفعل أي شئ حتى لا نتواجه معها. إن الراديو والتليفزيون والصحف والكتب والأفلام وحتى العمل الشاق والحياة الاجتماعية المشغولة، كلها من الممكن أن تكون طرق نهرب بها من ذواتنا ونحول بها الحياة إلى أوقات ممتدة من التسلية والترفيه في قضاء الوقت.
إن كلمة "تسلية Entertainment" هي كلمة هامة هنا. فهي، حرفياً، تعني: "الاحتفاظ (tain من الفعل اللاتيني tenere) بالشخص مشغولاً فيما بين (enter)". التسلية هي كل ما يحتفظ بأذهاننا بعيداً عن الأشياء التي يصعب مواجهتها. التسلية تجعلنا نـُلهى في الإثارة والتشويق. إن الترفيه في حد ذاته عادة ما يكون مفيداً في أن يعطينا يوماً أو أمسية في إجازة من همومنا ومخاوفنا. ولكننا حين نبدأ في أن نحيا الحياة على أنها تسلية فإننا نفقد التلامس مع نفوسنا ونصير كمتفرجين على برنامج اسمه "الحياة". حتى العمل الجاد والمفيد من الممكن أن يكون طريقة لنسيان حقيقة أنفسنا. ولذا فإنه من غير المفاجئ أن نجد التقاعد خبرة مخيفة بالنسبة للكثيرين. فمن نكون يا ترى حين لا يوجد شئ ننشغل به؟

الأب: هنري نووين
من كتاب: "هل تقدر أن تشرب الكأس؟"