المنازل (جمع منزلة أو مقام)

القديسة تريزا الأفيلّية ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

(من التراث التأملي)

 

 

 

 

غنى عمل الله

 

قد يُصَّور أنه قد قيل كل ما يجب النظر فيه في هذه المنزلة (المنزلة الخامسة، بعد أن انتهت القديسة من تصنيف أربعة منازل سابقة في العلاقة الروحية الباطنية مع الله. يحتوي الكتاب على سبعة منازل متدرجة تصاعدياً)، لكن ما زال هناك الكثير، لأننا نجد فيها، كما قلت، الأكثر والأقل. أما في شأن الاتحاد، فلا أراني سأحسن أن أزيد شيئاً، لكن عندما تستعد النفس، ويؤتيها الله هذه المنن (جمع منة: وهي المنحة/ العطية/ الهبة المجانية لمن لا يستحقها)، فثمة أشياء كثيرة تُقال في ما يعمله الرب فيها، سأتحدث عن بعضها وعن مفاعليه. وأود أن استغل تشبيهاً يناسب هذه الغاية كي أسهل فهم الموضوع، وكي نرى أنه، ولو أننا لا نستطيع شيئاً فيما خص عمل الرب هذا، يُمكننا أن نعمل الكثير باستعداداتنا كي يؤتينا جلاله هذه المنة. وهذا التشبيه هو:

 

مَثل دودة القز: لقد سمعتم، ولا شك عن روائعه في كيفية صنع الحرير، إنه وحده استطاع أن يبتكر اختراعاً كهذا: بذور كحبيبات الفلفل، (أنا ما رأيتها قط، بل سمعت عنها، فإذا فات قولي الدقة فليس الذنب ذنبي)، تبدأ الحياة بفعل الحرارة عندما تأخذ أشجار التوت تورق، وتظل هذه البذور ميتة إلى أن يتوافر الغذاء الذي يقيتها، ومن أوراق التوت تغتذي إلى أن تكبر، فيضعون لها أغصاناً دقيقة تروح تحرك الحرير عليها بأفواهها الصغيرة، وتصنع شرانق مضغوطة جداً تحتبس فيها، وتموت هذه الدودة الكبيرة البشعة، وتخرج من الشرنقة فراشة صغيرة بيضاء، ظريفة جداً فلولا أننا نرى حدوث هذا الأمر، بل لو رُوي لنا وكأنه من الماضي، من تراه كان يصدق ذلك ؟ وأيه حجج قد تقنعنا بأن شيئاً عديم العقل تماماً، كالدودة أو النحلة، يتحمل لفائدتنا مؤنة (مشقة) هذا التعب، ويعمل بكد حتى تفقد هذه الدويدة الحياة في سعيها؟ هذا يكفي لفترة من التأمل، يا أخواتي، ولو لم أزد عليه شيئاً، ففيه تستطيعون أن تعتبروا عجائب إلهنا وحكمته. وما تراه يكون من أمرنا لو عرفنا خصائص الأشياء كلها؟ إنه ليفيدنا فائدة كبرى أن ننشغل بالتفكير في هذه العظائم ونغتبط بكوننا عروس ملكٍ حكيمٍ وقديرٍ كهذا الملك.

 

 

 

العلاجات لحياة النفس

 

ولنعد إلى موضوعنا. إن هذه الدودة تبدأ حياتها عندما تشرع تستفيد، بفعل حرارة الروح القدس، من العون العام الذي يؤتيه الله جميعنا، وعندما تأخذ تستفيد من الأدوية التي وكل أمرها إلى كنيسته كممارسة الاعتراف (التوبة)، والقراءات الصالحة، والمواعظ، وهي العلاجات التي تستطيع الحصول عليها نفس ماتت بسب إهمالها، وخطاياها، وانغماسها في أسباب الخطيئة. عندئذ تبدأ تحيا، وتروح تغتذي من هذا، ومن التأملات الصالحة إلى أن يكون قد تم نموها، وهو ما يهمني، أما ما عداه فقليل الشأن.

 

 

 

حياتنا محتجبة في المسيح

 

حين تكبر هذه الدودة، كما قلت في مطلع ما كتبت، تبدأ بصنع الحرير، وبناء المنزل حيث عليها أن تموت. أريد أن أبين هنا أن هذا المنزل هو المسيح، يلوح لي أني قرأت، أو سمعت، في مكان ما، أن حياتنا محتجبة في المسيح، أو في الله، لا فرق في ذلك، أو أن حياتنا هي المسيح، وأن يكون الكلام كذلك أم لا، فلا يؤثر في مقصدي.

 

 

 

الله هو المنزل

 

ترون إذاً، يا أبنائي، ما يُمكن أن نصنعه بعون الله: أن يصير، هو نفسه، جل جلاله، منزلاً لنا، كما يحصل في تأمل الاتحاد هذا، وأن نقوم، نحن، بصنع هذا المنزل، كأنني أود القول إننا نستطيع أن ننزع شيئاً من الله أو نزيده عليه، لأنني أقول إنه، هو المنزل، وإننا نستطيع صنعه لنقيم فيه. وكيف لا نستطيع! لا أن ننزع من الله شيئاً أو نزيد عليه، بل أن ننزع منا ونزيد، كما تفعل هذه الدويدات. فما إن نكون قد انتهينا من صنع كل ما نقدر عليه في هذا المجال حتى يقرن الله عظمته بهذا العمل الصغير، وهو ليس بشيء، ويُضفي عليه قيمة عظمى حتى يكون الرب نفسه مكافأة لهذا العمل. وهكذا بما أنه هو من تحمل العناء الأكبر، فإنه يريد أن يضم مشقاتنا الصغيرة إلى المشقات الكبرى التي احتملها جلاله لتكون كلها شيئاً واحداً.

 

 

 

حث على العمل

 

فهيا، إذن، يا أولادي! فلنسرع إلى العمل، وإلى نسج هذه الشرنقة الصغيرة، نازعين منا حب الذات وإرادتنا، وارتباطنا بشيء من أشياء الأرض، عاملين أعمال التوبة، ممارسين التأمل، والإماتة، والطاعة، وغير ذلك مما تعرفون. ألا ليتنا نضع موضع التنفيذ ما نعرف وما تعلمنا وجوب عمله! فلتمت، فلتمت هذه الدودة كما تموت حين تتم ما خلفت من أجله! وسترون كيف نرى الله، ونرى ذواتنا غائصة في عظمته كالدودة في الشرنقة. انتبهوا إلى قولي "نرى الله" بالمعنى الذي ذكرت أنه يشعرنا بحضوره في هذا النوع من الاتحاد.

 

 

 

معجزة تحول النفس

 

فلننظر، إذن، ماذا يحصل لهذه الدودة، وهو غاية كل ما قلت إلى الآن. عندما نكون في حال التأمل هذا، تكون قد ماتت تماماً عن العالم: تصير فراشة بيضاء. يا لعظمة الله ! وكيف تصير النفس هنا بعد أن تكون قد قضت وقتاً قصيراً غائصة في عظمة الله. قريبة منه هذا القرب، وقتاً لا يصل في رأيي أبداً إلى نصف ساعة! إني أقول لكم حقاً، إن النفس لا تعرف ذاتها . انظروا الفرق بين دودة بشعة وفراشة بيضاء. إنه الفرق ذاته في النفس. لا تعرف كيف استحقت كل هذا الحظ: أعنى أنها لا تعرف من أين آتاها، لأنها تعلم تمام العلم أنها لا تستحقه، ترى ذاتها راغبة في تسبيح الرب. وتريد أن تتلاشى وتموت ألف ميتة من أجله ، ثم تتمنى أن تقاسى مشقاتٍ كبرى دون أن تستطيع شيئاً آخر. كبيرة، كبيرة رغباتها في التوبة، ورغبتها في العزلة، وفي أن يعرف الجميع الله. لذلك تحزن حزناً كبيراً حين تراه مهاناً. سأتحدث بالتفصيل عن هذه الأمور في المنزلة الآتية، فلئن كان ما يحدث في هذه المنزلة هو نفسه تقريباً ما يحدث في المنزلة الآتية، فإن قوة المفاعيل مختلفة جداً. فإذا كانت النفس، كما قلت، تجهد في السير إلى الأمام بعد أن يُوصلها الله إلى هذا المقام، فإنها سترى أموراً عظيمة.

 

 

 

طيران الفراشة وطيران النفس

 

آه، ما أعجب منظر اضطراب هذه الفراشة، مع أنها ما كانت في حياتها قط أكثر هدوءاً وسكينة! إن ذلك يدعو إلى تسبيح الله. فهي لا تعرف أين تحط أو تستقر. إنها لم تعرف الهدوء في حياتها، لذلك يُسيئها كل ما ترى على الأرض، بخاصة حين يُقدم لها الله مراراً كثيرة من هذا الخمر، فإنها تكاد تجني في كل مرة مكاسب جديدة. إنها تحتقر الأعمال التي تصنعها وهي دودة حين كانت تنسج الشرنقة شيئاً فشيئاً. لقد نبت لها جناحان، فكيف لها أن تقنع بالسير خطوة خطوة، وهي قادرة على الطيران؟ إن رغباتها قوية حتى لتعتبر شيئاً ضئيلاً كل ما تستطيع عمله في سبيل الله. لا تُعير قدراً كبيراً ما قاساه القديسون، إذ تعرف بالاختيار كيف يُساعد الرب، ويحول النفس فُتخال أنها ليست هي ولا صورتها. فمقابل الضعف الذي كانت تتصوره في ذاتها لعمل التوبة، تجد نفسها لآن قوية. ومقابل تعلقها بالأهل والأصدقاء والأموال (وما كانت تكفيها أفعال، ولا عزم. ولا إرادة للتجرد عنهم، بل كان تجد ذاتها أكثر لصوقاً بهم). ترى الآن يثقل عليها التزامها بما عليها أن تعمل، مخافة أن يهين الله. كل شيء يُتعبها، لأنها خبرت أن الراحة الحقيقية لا تستطيع أن توفرها لها الخلائق.

 

 

 

لا راحة بعد الآن

 

أراني أُطيل الكلام، ولكنت أفيض في الحديث أكثر كثيراً فيرى من آتاه الله هذه المنة أنني مقصرة، فلا عجب من أن تعود هذه الفراشة الصغيرة فتبحث عن مستقر، فإنها تجد نفسها حديثة عهد بأشياء الأرض. فإلى أين تذهب المسكينة؟ أما أن تعود إلى المكان الذي منه خرجت، فلا تستطيع، لأن الأمر، كما قلنا، ليس بيدنا مهما بذلنا من جهدٍ، إلى أن يتلطف الله فيعطينا هذه المنة من جديد. آه، ربي! وما أعظم المشقات الجديدة التي تبدأ تواجهها هذه النفس! من يتصور ذلك بعد منةٍ ساميةٍ كهذه؟ والخلاصة الأكيدة، أننا ما دمنا في هذه الحياة، علينا أن نحمل الصليب بطريقة أو بأخرى، ومن قال بعد أن وصل إلى هذه الحال إنه دائماً في راحةٍ ومتعةٍ، أقول أنا له؛ إنه لم يصل إليها أبداً، بل لعله نعم بشيء من اللذة، هذا إذا دخل المنزلة السابقة، بفضل ضعف طبيعي، بل لعل ذلك كان بمساعدة الشيطان الذي يُعطيه سلاماً ويشن عليه فيما بعد حرباً أشد.

 

 

 

سلام وحزن على مصير الهالكين

 

لا أعني أن الذين يبلغون هذه الحالة لا ينعمون بالسلام، بل إنهم ينعمون بسلامٍ وافرٍ. إن المشقات نفسها ذات قيمة كبرى وهي من جذرٍ صالحٍ بحيث، رغم كونها مُرهقة، ينبت منها السلام والسرور. أما الكدر الذي تُحدثه أشياء العالم، فُينبت لديهم رغبة في الخروج منه شديدة الألم، لا يخفف منه إلا التفكير في أن الله يريدهم أن يعيشوا في هذا المنفى، بل إن هذا لا يكفي لأن النفس، رغم هذه المكاسب كلها، ليست مسلمة أمرها إلى إرادة الله تسليماً، مثلها فيما بعد، وإن كانت تتوافق معها، لكنها تفعل ذلك بأسف كبير، ودموع غزيرة، ولا تستطيع أمراً آخر لأنها لم تُعط أكثر من ذلك. وفي كل مرة تصنع التأمل تشعر بهذا الحزن. ولعل هذا الحزن ينجم عن غمها الشديد إذ ترى أن الله مُهان، وقليلاً إكرامه في هذا العالم، وأن الكثير من النفوس تهلك، أي نفوس الهراطقة، والمغاربة، لكنها ترثي أكثر ما ترثي لنفوس المسيحيين، لأنها، وإن كانت ترى عظم رحمة الله في أنهم، مهما ساءت حياتهم يستطيعون أن يُصلحوا أنفسهم فيخلصوا، تخشى أن يهلك منهم كثيرون.

 

 

 

حزن رسولي

 

ما أعجب عظمة الله! إن هذه النفس ما كانت، لسنوات قليلة خلت، بل ولأيام مضت، تفكر إلا في ذاتها، فمن تُراه زجها في هذه الاهتمامات المؤلمة؟ فلو قضينا سنواتٍ عديدة في التأمل، فلن نشعر بألم هذه الاهتمامات كما تشعر به هذه النفس. عونك اللهم! إذا كنت تمرست طوال أيامٍ وسنواتٍ بالتفكير في الشر العظيم الذي هو إهانة الله، وفي أن هؤلاء الذين يهلكون هم أبناؤه وإخوتي، وفي الأخطار التي نعيش فيها، وفي الخير الذي يعود علينا بالخروج من هذه الحياة البائسة، أفلا يكفي؟ كلا . يا أولادي. إن الحزن الذي نشعر به هنا (في هذه الدرجة من التأمل) لا يوازي الحزن الذي يأخذه بنا من جراء تلك الاعتبرات. فهذا قد يحصل لنا بنعمة من الرب، وذلك بالتفكير طويلاً في هذا الموضوع، لكنه حزن لا يبلغ صميم أحشائنا كما هو الحال هنا حيث يبدو وكأنه يُفتت النفس ويطحنها دون أن تسعى، هي ، إلى ذلك ، بل أحياناً، حتى دون أن تريده. فما هو هذا، إذاً؟ من أين يأتي؟ سأقول لكم ذلك.

 

 

 

استسلام النفس

 

أما تذكرون – وقد قلت ذلك لكم سابقاً وإن لم يكن في المناسبة نفسها - ، أما تذكرون العروس التي أدخلها الله إلى بيت الخمر ورتب فيها المحبة؟ هذا ما يحصل، فهذه النفس تستسلم بين يدي الله، وقد غلبها الحب الكبير، فلا تدري ولا تريد إلا أن يصنع الله بها كل ما يحلو له (ولا أظن أن الله يؤتي أبداً هذه المنة إلا نفساً يجعلها بكليتها من خاصته)، وهو يريدها أن تخرج من هناك موسومة بخاتمه دون أن تدري كيف يتم ذلك. فالنفس هناك، لا تعمل، في الحقيقة، أكثر مما يعمل الشمع عندما يطبع آخر الخاتم فيه، فالشمع لا يطبع نفسه بالخاتم، بل هو مستعد، أي إنه لين. ولا يُلين الشمع نفسه ليكون مستعداً، بل يبقى ساكناً ويرضى بالتليين. يا لكِ جودة (صلاح)، يا جودة الله، إنك تتحملين كل شيء! فأنت لا تطلبين إلا إرادتنا، وأن لا يكون في الشمع عائق.

 

 

 

تنال النفس ما يملك الابن

 

فترون إذاً، يا أخواتي ما يصنع إلهنا هنا كي تعرف هذه النفس أنها تخصه. إنه يعطيها مما يملك، وهو ما ملكه ابنه في هذه الحياة. لا يستطيع أن يمنحنا منه أعظم. من تراه كان يود الخروج من هذه الحياة أكثر منه؟ لقد قال جلاله ذلك في العشاء: "شهوة اشتهيت".

 

فكيف لم يتمثل أمامك، يا ربي، الموت الأليم الذي كنت ستكابده، ذاك الموت القاسي، المرعب؟ كلا، لأن حبي الكبير للنفوس، ورغبتي في خلاصها تتجاوز بما لا يُحد هذه الآلام، والعذابات المريعة التي قاسيتها، أقاسيها، منذ أن صرت في العالم، تكفي لشدتها حتى أعتبر تلك كلا شيء بإزائها.

 

 

 

هموم النفس بسبب إهانة الله

 

وهكذا، كثيراً ما تفكرت في هذا الموضوع. ولأنني أعرف الهم الذي تقاسيه وقاسته نفس أعرفها لرؤيتها ربنا مُهاناً، وهي فكرة لا تُطاق حتى أنها كانت تفضل الموت أكثر كثيراً من احتمالها، وأفكر في أن نفساً ذات محبةٍ ضئيلةٍ لا تساوى شيئاً إذا قورنت بمحبة المسيح، كانت تشعر بهذا الهم الذي لا يطاق، فكيف تراه كان الغم الذي أصاب ربنا يسوع المسيح، وكم قاسى في حياته، هو، من كان كل شيء حاضراً أمامه، وكان يرى الإهانات الكبرى التي تلحق بأبيه؟ لا أشك في أن تلك الأوجاع كانت أشد وأدهى من آلامه المقدسة، لأنه كان يرى في هذه خاتمة مشقاته، فهذا، وفرحه برؤيته خلاصنا بموته، وإظهاره حبة لأبيه في تألمه إكراما له، كان يُلطف عذاباته، كما يحدث في هذه الدنيا للذين يمارسون تقشفات قاسية بقوة الحب، فإنهم يكادون لا يشعرون بها، بل إنهم يودون ممارسة المزيد منها، ككل شيء يبدو لهم قليلاً، فما يكون من أمر جلاله إذ يرى نفسه في حالٍ كهذه، لُيظهر لأبيه أنه يطيعه طاعة تامة، وحباً بالقريب؟ ما أعظمها لذة أن يتألم أحد وهو يصنع إرادة الله! ولكن عندما نرى الإهانات الكثيرة تلحق بجلاله، وأن العديد من النفوس تصير إلى الجحيم، أعتبر  الأمر في منتهى الشدة، أعتقد انه لو لم يكن أكثر من إنسان فإن يوماً واحداً من ذلك الألم كان يكفي ليقضي على حيواتٍ عدةٍ، فكيف بحياةٍ واحدة!

 

 

 

القديسة تريزا الأفيلّية

 

من كتاب "المنازل"