انسحاق الروح

متى المسكين ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

وادي الاتضاع في مظهره مظلم وكئيب، ولكن أول ما تطأ قدماك هذا الوادي المقدس يجرى لاستقبالك حراس المرصد ليغسلوا جراحاتك التي تكون قد مزقت نفسك وجسدك عند اجترائك على الهبوط المفاجئ الخطر فوق جبال العالم الكاذبة إلى منحدر وادي الإتضاع المخيف! ويأخذونك لاستراحة قليلة بعدها يدخلونك المرصد السماوي المقام في أول الوادي الطويل حيث يعطونك منظارا كاشفا يمكنك بواسطته أن ترى دقائق الوادي المقدس بأكمله، حيث ترى على جوانبه تعزيات على شكل أقراص الشهد، والسائرون يغتذون بها، والنعمة تفتش العابرين باستمرار لتطمئن على شفاء جروحهم، وهى تعصبهم بعصائب تمتص الآلام وتحول الجروح إلى بقع مضيئة شبه المصابيح تنير .
وحينئذ يأخذك العجب والاندهاش : كيف يبدو هذا الوادي بدون المنظار السماوي كئيبا ومظلما، وكأن الموت والانحدار فى كل ركن من أركانه، مع أنه بالرؤيا المقربة يبدو مليئا بشهد العسل وبأيد رحيمة وأشفية ونور خفي يضئ الداخل قبل أن يضئ الخارج؟؟ وحينئذ تدرك سر الوادي.

ولكن وأنت مأخوذ بجمال الوادي يدعوك الحراس أن ترفع المنظار قليلا لترى ما بعد الوادي وما ينتظرك هناك في نهاية المطاف، وإذ ترفع المنظار ترى جبل التجلي من بعيد بنوره الفائق، والسيد رافع يديه يحتضن الذين يبلغون نهاية الوادي، وبقع الدم على يديه تشع نورا مبهجا يضئ الجبل كله، وينعكس نورها سرا على الوادي المظلم، وعندما تسقط على جروح السائرين في الوادي ، تضئ هي الأخرى كما يضئ القمر عندما تسطع عليه أشعة الشمس عبر الفضاء المظلم! وعندها يأخذك الفرح والاطمئنان وتتحرق شوقا لاقتحام ظلمات هذا الوادي المقدس، بعد أن ينكشف لك سر الانسحاق المبهج والجروح المضيئة والمرارة المخفي داخلها أقراص الشهد.

والحقيقة أن موضع هذا الوادي المقدس وادي الانسحاق والجروح والمرارة هو داخل قلب الإنسان، وحراس المرصد الذين في أول الوادي هم الآباء الذين جازوا الانسحاق ومرارته ووصفوا وعورته وفائدته، والمنظار هو الممارسة العملية الصحيحة لألم الإتضاع حبا وكرامة للمصلوب، حسب المواصفات الدقيقة لرؤية الإتضاع الصحيحة، أما شهد العسل فهو اللذة النابعة من شركة آلام الرب، وأما الجروح النازفة فهي الكرامة المجروحة، وهى على أنواع : منها ما هو جروح سطحية يصنعها الإنسان في نفسه، ومنها ما هو رضوض وجروح غائرة من صنع الناس، ومنها ما هو كسور مميتة في جدران القلب من صنع التأديبات الإلهية حيث يستفرغ منها كل دماء الذات الترابية التي يصعب سحبها بواسطة الجروح السطحية أو الغائرة.

أما الأشعة الإلهية المنبعثة من جروح الرب والمنعكسة على جروح وكسور الإتضاع ، فهي الشركة الجزئية في مجد المسيح الموعود به عن ثقة ويقين والتي سوف تبلغ أشد وهجها وضيائها عند ظهور ربنا كما هو!

(الأب متى المسكين
من كتاب "حياة الصلاة الأرثوذكسية"
ص 306، 307)