تمموا خلاصكم بخوف ورعدة

متى المسكين ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

يظن بعض الناس أن طريق حياة العبادة والتأمل والخلوة محفوف بالورود والرياحين. كلا، فالطريق صحراء قفر، لا جمال له فنشتهيه في ذاته! ويكفى أن المسيح وصفه بأن بابه ضيق ومسلكه شاق وكرب. حتى أنك بعد أن تسير فيه تأخذك رعدة ويدخلك الشك وتقول أحقا أنا سائر إلى الله؟ ولكن أين هو؟ هذه بداية امتحان الطريق الذي تجوزه نفسك بعيدا عن كل معونة من أي إنسان، وخلوا من أي مسرة روحية أو علامة، أو حتى كلمة وعد أو تشجيع. بل حتى المنطق ذاته يقف ضدك، فيُختبر إيمانك خلوا من العيان.
ومن أجل جفاف هذه البداية، وبسبب هذا الامتحان ومنظر الطريق وصعوبته، رجع الكثيرون إلى الوراء ولم يستطيعوا العبور، وعلى شفاههم حيرة نثنائيل : "أمن الناصرة يمكن أن يكون شئ صالح "؟ (يو1: 46) … ولكن طوبى للذين ساروا وراء الإيمان، لأنه "إن آمنت ترين مجد الله ." (يو 11: 40)
وحتى الإيمان لن يدوم معك بشدة على طول الطريق، فسوف يخور منك بين الحين والحين، لأنك في الطريق ستطلب مسراتك الأولى، وتعود بقلبك إلى مصر وتشتهى البصل والكرات وتنبري نفسك لك وتوبخك: لماذا أخرجتني إلى البرية لتميتني؟ مسكينة هي نفسي ونفسك، بل هي غليظة الرقبة جدا لأنها ستطلب لحما في البرية! تطلب علامة ولا تجد، تطلب آية في الطريق فلا يعطى لها.

كثيرون تحيروا جدا فوقفوا يسألون أين نحن؟ وما هو عملنا في هذا الطريق؟ وما هي رسالتنا من وراء ذلك؟ ولكن هذه هي أسئلة الشك وهتاف التقهقر، وهكذا عاد كثيرون من منتصف الطريق لأنهم أرادوا أن يحيوا بالعيان، وطلبوا لأنفسهم معجزة وآية فبرهنوا على خلوهم من الإيمان، وإذ لم يجابوا إلى طلبهم انتكصوا على أقابهم، وألقوا بأنفسهم في محيط العالم الصاخب، وانهمكوا بكل قواهم في أعماله الكثيرة، وشغلوا ذواتهم إلى درجة جنونية، لا لأن الأعمال في نظرهم خيرة، ولكن ليهربوا من الحقيقة التي اصطدموا بها، لأن الرعدة أخذتهم عندما جابهوا السير بالإيمان وحده لا بالعيان. لولا موسى على اسرائيل لما ارتحل يوما واحدا في البرية! أربعين سنة سار موسى على رجاء الوصول إلى أرض الموعد، وعلى الإيمان وحده جاهد هذا الجهاد الطويل. ومن وراء هذا الإيمان الجبار استطاع أن يغصب شعبا عنيدا للسير وراءه أربعين سنة في برية قاحلة.
إنه تعوزنا قيادة موسى لأنفسنا لكي نسير بالإيمان، ونغصب ذواتنا على المسير ولو أننا لا نرى شيئا، ونرتحل في طريق الله ونجاهد مهما طال بنا الجهاد، لأننا واثقون أن في نهاية الطريق قد أعدت لنا أورشليم السمائية كعروس مهيأة لعريسها. أما في الطريق فتكفينا وعوده الصادقة، وتعزياته الخفية ، وصوته الآتي من الأبدية.

الأب متى المسكين
من كتاب "حياة الصلاة الأرثوذكسية"
ص 356، 357