في مسألة المعاناة

بول تورنييه ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

كيركجارد، أحد أعظم المسيحيين بين مفكري العالم، قال وهو على فراش موته: "حياتي كانت عذاباً هائلاً لم يعرفه ولم يفهمه الآخرون." لقد أوضح لنا كيف أن الألم يتعذر نقله للآخرين. فنحن لن يمكننا أبداً أن نقيس آلام الآخرين. يمكننا فقط أن نخمن. فعبارات مثل "أنا أدرك مشاعرك!" عادة لا تكون أكثر من تعبير عن أننا لا نستطيع أن ندرك. فمن يتألمون يعرفون جيداً أن ألمهم غير قابل للنقل، وأننا نفشل في تقدير المشكلة حين نظن أنه يمكننا أن نضع أنفسنا في مكانهم. أتتني إحدى السيدات المترملات والتي لم تشفى من أحزانها، وقلت لها: "حسب خبرتي يا سيدتي كشخص لم أختبر فقدان زوجتي، أجده من الصعب علىّ أن أفهم ماذا يعني أن أكون شخص أرمل." فتفاجأت وقالت: "كل الآخرين حاولوا تعزيتي. إنما أنت الوحيد الذي قال لي الحقيقة." وهذه الأرملة قد صارت إنسانة مسيحية نشطة ورائعة. فالكثير مما يقوله المرء والمفترض أن يعزي به الشخص، لا يعطي أي عزاء لأي إنسان، لأنه ببساطة لا يحمل رنين الحق. لا بد لنا من القول بأنه لا يوجد شخص كالمسيح يملك تحنن وتعاطف كامل. جميعنا لنا حدودنا والتي تظهر بوضوح أمام الموت. فالأطباء، والذين أسمى وأعلى تمنياتهم أن يأتوا بالعون للمريض، تسقط أمانيهم تلك أمام المريض الذي يحتضر. وقد اعترف لي الكثير من الأطباء بأنهم يجدوا صعوبة في زيارة المريض الذي لم يعد بيديهم تقديم شئ له، إذ ينظرون إليه كمن فـُقد من بين أيديهم بالفعل.

 

قرأت في إحدى الكتب عن أخصائي نفسي أمريكي جلس في ممر بأحد مستشفيات نيويورك ليلاحظ حجرات المرضى الذين يحتضرون مقارنة بحجرات المرضى الذين يتعافون، وراقب على ميقاتي (ساعة إيقاف) كم تحتاج الممرضة من وقت لتلبي جرس النداء من أحد الحجرات. فلاحظ أن الممرضات يستجبن للنداء الآتي من حجرات المرضى الذين يتعافون مرتين أسرع من النداء الآتي من حجرات المرضى الذين يحتضرون. وحين تحدث إليهن أصابتهن الدهشة وقلن: "لا، هذا غير ممكن، فنحن نهرع حالما يضئ جرس النداء، وعلى أي حال نحن لا نعرف ما إذا كان النداء آتياً من أحد المرضى الذين يحتضرون أو من غيرهم." إلا أن ملاحظة هذا الأخصائي لم تكن خاطئة، فتصرفهم إذن كان لاشعورياً. كل منا لديه خوف ما من الألم، ونستطيع أن نشارك الآخرين آلامهم إلى حدٍ معين فقط. وهذا حقيقي حتى لأفضل المؤمنين منا.

 

 

 

كما روى نفس الكاتب قصصاً كثيرة عن قساوسة لجئوا لقراءة أجزاء من الكتاب المقدس لتجنب المواقف التي بها احتكاك إنساني أكثر. فمن الممكن أن يموتوا الناس في عزلة بالمستشفيات، فهم يموتون في وحدة وكأن هناك مؤامرة صامتة ضدهم.

 

 

 

يجب علي الآن أن أتحدث عن "سلوك المؤمن تجاه معاناته الشخصية". القبول! القبول أمر صعب. فردود الفعل السلبية والاستسلام ليسوا بفضيلة. فكبار الذين يعزلون أنفسهم حتى الموت يشابهون الحيوانات الجريحة أكثر من مشابهتهم للبشر. التمرد! هذا هو رد الفعل المعتاد، و لا يجب على أحد أن يشعر بالخزي لشعوره بالتمرد عندما تأتي الظروف الصعبة، فمعظم الناس يحاولون إخفاء هذا الشعور. ولكن في نظر المحللون النفسيون والأطباء فالتمرد والثورة هو رد الفعل الأول وهو أيضا رد الفعل الطبيعي

 

إفتح كتابك المقدس وسترى أن أعظم المؤمنين كانوا متمردين. أشعياء، أرميا وآخرون. فيسوع نفسه كانت له مواقف بها التمرد. فمن اللازم تخطي هذه المرحلة من السخط للوصول لمرحلة القبول الحقيقي، ولكن ذلك لا يحدث بإرادتنا الشخصية فقط ولكن بمعاونة من الروح القدس.

 

 

 

إن الهدف من الحياة ليست أن تكون خالية من المعاناة وإنما أن تأتي هذه المعاناة بثمارها. وقد نبه يسوع أتباعه بأنهم سيختبرون صعوبات واضهادات. كما يقول القديس فرانسيس: "الصلاح الذي أنا منتظره عظيم جداً لذلك كل ألم هو فرح بالنسبة لي." فهذه هي نصرة الروح والإيمان والتي يمكن أن تحول المعاناة إلى سعادة معرفة الله عن قرب.

 

 

 

عندما كسر ابني إحدى أرجله قال: "على الأقل حدث لي شئ"، فنحن كنا نحاول جاهدين أن نحميه من أي خطر مما سبب له شعور بأنه لم يختبر الحياة أبداً. إن لم يعاني الشخص فانه لم يختبر الحياة. فقد تقابلت مع أشخاص اكتشفوا أنهم لم يختبروا الحياة فعلاً إلا من خلال معاناتهم.

 

فالمعاناة يمكن ان تجعلنا نصرخ الى الله. جون كالفن، والذي كان يعاني من آلام بالمعدة كان يتعجب بطريقته الرقيقة قائلا، "ها يا إلهي، أنت تطحنني." فكم من القديسين اختبروا التحول الناتج عن المعاناة، ليس بالمعنى الفلسفي وكأن الله ابتلاهم، ولكن بمعنى أن هذه المعاناة حولتهم إلى الله؟ وما هو معنى الحياة إن لم يكن الوصول إلى الله؟

 

 

 

في سفر أيوب، الذي ذكرته من قبل، ليس هناك سبباً لمعاناة الأبرار بالرغم من أن الله له رعوده وبروقه المضيئة والتي كان من الأوقع لها أن تضرب شخص ككارل يونج الذي رأى أن الله قد أخطئ عندما ترك أيوب بلا إجابة. ولكن أيوب في النهاية يتقابل مع الله ويقول له: "بسمع الأذن (فقط) قد سمعت عنك، ولكن الآن رأتك عيناي". نعم، فمن الممكن أن تكون المعاناة هي الطريق إلى مقابلة الله.

 

أتذكر أم فقدت ابنتها التي كانت في مقتبل العمر. جاءت هذه السيدة لمقابلتي وقالت: "من الآن فصاعداً عليّ التواصل مع السماء." فهذا الثكل (ألم الفقد) الموجع يمكن أن يخلق علاقة صلبة وتضامن مع السماء. فجزء منا هو في السماء حيث يكمن كنزنا وحيث نشتاق إلى الوصول.

 

 

 

آخر نقطة سأتحدث عنها هنا هي مشكلة المعنى. فالإنسان الذي لا يجد معنى لحياته يعاني معاناة مضاعفة. فهو يعاني بسبب المعاناة نفسها ويعاني لأنه يشعر أن هذه المعاناة بلا معنى.  فيكتور فرانكل من فيينا، أحد أعظم قادة التحليل النفسي الحديث، أكد على أهمية الاحتياج الإنساني ايجاد معنى لحياته. ومنذ وقت فرويد كان هناك من أتباعه من حاولوا أن ينظروا للتحليل النفسي وكأنه دواء عام لكل مشاكل البشرية. أما فرويد، و الذي كان رجلاً صادقاً حذرهم من هذا قائلاً: "التحليل النفسي يمكنه أن يحول معاناة عصابية (اضطراب نفسي) إلى معاناة إنسانية، ولكن المعاناة الإنسانية عميقة جداً فلا يمكن للمحلل النفسي أن يفعل شيئاً تجاهها".

 

وقد عانى فرويد نفسه معاناة شديدة حيث خضع لاثنين وثلاثون جراحة بسبب سرطان الحنجرة على مدار عشرة سنوات وانتهى به الأمر وهو غير قادر على الأكل أو الشرب أو الكلام. ولأنه رجل ذو اتضاع كبير وصمود قوي، احتمل كل هذا برزانة غير عادية. و بعد مرور سنوات عديدة على وقت فرويد الذي قال بأن "المعاناة الإنسانية هى خارج نطاق قدرتنا"، يأتي فرانكل ليقول: "إن أعظم احتياج للإنسان هو أن يجد معنى للأشياء، معنى لحياته."

 

 

 

الناس في المجتمع الحديث يعانون من فراغ المعنى والذي يلقبه فرانكل بالفراغ الوجودي. فمعظم المعاصرون يُحمَلون في دوامة الإنتاج الضخم، والحضارة المبنية على الاستهلاك.

لابد لنا من إدراك حقيقة ما نكافح لأجله. فهدفنا أن نساعد الإنسانية في ألا تنظر للأمور فقط من منطلقاتهم التكنولوجية الخارجية غير الإنسانية، بل أن ترى أيضاً ما هو حقاً على المحك على الصعيد الإنساني في حياة كل شخص وفرد. وهذا هو كفاح وصراع الإيمان والذي يجد المعنى حتى في وسط الألم والمعاناة والإخفاق والفشل، بل ويصل من خلال ذلك إلى اللقاء الشخصي الحميم مع المخلِّص.

 

إن قلب الإنجيل لا يكمن في العقيدة، بل في شخص، في كيان يتألم. ففي الألم يستطيع الإنسان المسيحي أن يقترب من يسوع ويتوحد معه، في موته ونصرته. إن نضج الشخصية، وتمام نموها الروحي لا يتأتى، للأسف، دون المعاناة والألم، أو على الأقل، دون الاشتراك في آلام الآخرين!

 

 

 

 

بول تورنييه

 

من كتاب "a Listening Ear"

ترجمة: ندى لويس، مشير سمير

 

 

 

 

 

 

* ساعدوا بعضكم بعضاً في حمل أثقالكم، وبهذا تتممون العمل بشريعة المسيح، لأن على كل واحد أن يحمل حمله. (غلاطية 6: 2،5 - الترجمة العربية المشتركة)

 

 

 

"هناك حدود لما يسمى بـ"الجسد الواحد". في الحقيقة أنت لا يمكنك أن تشارك شخص آخر ألمه أو خوفه أو ضعفه. قد تشعر بالسوء، قد تشعر، فيما تتصور، بنفس مقدار السوء الذي شعر به الآخر، بالرغم من أني أشك في من يدعي هذا، ولكن على أي حال سيظل ما تشعر به مختلفاً عما يشعر به الشخص الآخر."

 

سي. أس. لويس

 

من كتاب: "اختبار الألم A grief Observed"