أيوب.. وخيبة الأمل بالله (1)

فيليب يانسي ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

هل الله ظالم؟ هل الله صامت ؟ هل الله مختبئ؟

 

 

 

 

 

إن أيوب هو أهم دراسة في الكتاب المقدس لحالة خيبة أمل بالله. وهو من هذا القبيل يُشكل سابقةً لأي نوع من الخيبة قد يشعر به أي واحد منا. ويُذكر أن حاخاماً أميركياً كتب كتاباً رائجاً عنوانه "حين تحدث الأمور السيئة للأشخاص الصالحين". غير أن سفر أيوب يرفع السقف: فهو يصف أن أسوأ الأمور تحدث لأفضل شخصٍ على الإطلاق؟

 

 

 

إساءة قراءة

 

لو سألتني عندما بدأت دراستي عما يتكلم عنه سفر أيوب، لسارعت إلى الإجابة: أيوب؟ كل امرئٍ يعرف موضوع سفر أيوب. إنه أكمل معاجلة يحتويها الكتاب المقدس لمشكلة الألم. إنه عن الحزن الرهيب والألم المُحير. ولاشك أن القسم الأكبر من السفر يتركز فعلاً على موضوع الألم. فالإصحاحات من 3-37 لا تحتوي على أفعالٍ تُذكر، بل على محاورات مُتشبثة بالآراء الشخصية يُجريها خمسة رجال سريعي الانفعال – أيوب وأصدقاؤه الثلاثة وأليهو الغامض – بشأن مشكلة الألم. وهم جميعاً يُحاولون أن يُعللوا سهام النكد الحادة وحجارته العنيفة التي انهالت جميعاً على أيوب المسكين، حتى بات يجلس بائساً يائساً في رمادِ ما كان قصره سابقاً.

 

إنما أعتقد الآن أنني أسأت قراءة السفر، أو على وجهٍ أدق: لم آخذ في الحسبان كامل السفر. فعلى الرغم من حقيقة كون السفر كله، ما عدا صُفيحات، يتطرق إلى مشكلة الألم، فإنني بالغٌ استنتاجاً يُبين أن سفر أيوب غير معني في الحقيقة بمشكلة الألم وحدها. ذلك أن معاناة الألم جزء من مقومات القصة، وليست موضوعها الجوهري. فكما أن قالب الكعك ليس عن البيض والطحين والحليب والزبد أو السمن، بل يستخدم هذه المُكونات في صنع قالب كعك، كذلك ليس سفر أيوب "عن" الألم، بل إنما يستخدم مقوماتٍ في قصته الكبرى، المعنيةٍ بعدُ بأسئلةٍ أكثر أهمية، أي أسئلة كونية، فإذا نظرنا إلى سفر أيوب ككل، وجدناه يُعني جوهرياً بالإيمان في شكله الأقوى.

 

لما تمعنت في درس السفر تبين لي أنه لا يُمثل بالحقيقة وجهة النظر البشرية. فإن الله هو الشخصية المركزية في الكتاب المقدس، ولا يبرز ذلك في أي موضع من الكتاب أفصح وأوضح منه في سفر أيوب. وأدركت أني ما برحت أقرأه من منظور الإصحاح الثالث فما بعد، أي بتعبير آخر: من منظور أيوب.

 

فلأشرح:

 

يُفيدنا أن نُفكر في سفر أيوب كما لو كان مسرحية بوليسية تنطوي على تفتيش لمعرفة "من الفاعل". وقبل بدء الرواية ذاتها، نُعطى نحن الجمهور عرضاً مسبقاً، كما لو كنا قد حضرنا باكراً إلى مؤتمر صحافي يشرح فيه المُخرج عمله (الإصحاحان 1 و2). فهو يُطلعنا على الحبكة ويصف الشخصيات الرئيسية، ثم يُخبرنا مٌقدماً من فعل ما في المسرحية، ولماذا. وهو في الواقع يحل كل لغزٍ في المسرحية ماعدا واحداً: كيف سيتجاوب الشخص الرئيس؟ أيثق أيوب بالله أم ينكره؟

 

ولاحقاً، حين تُرفع الستارة، لا نرى على المسرح سوى الممثلين. ولكونهم محصورين داخل المسرحية، فليس لهم أي علم بما قاله لنا المخرج في أثناء العرض المُسبق. ونحن نعرف الجواب عن أسئلة "من الفاعل"، أما المحقق البطل، أيوب، فلا. وهو يقضي كامل وقته على المسرح ليكشف ما نعرفه نحن أصلاً. فيحك جلده بشقفة فخار ويسأل: "لماذا أنا؟" أي خطأٍ فعلت؟ ماذا يحاول الله أن يقول لي؟"

 

أما بالنسبة إلى الجمهور، فينبغي أن تكون أسئلة أيوب مجرد تمرين عقلي، لأننا عرفنا الأجوبة من البرولوغ (خطبة المسرحية الافتتاحية)، أعني أول إصحاحين. أي خطأٍ ارتكب أيوب؟ لا شيء. فهو يمثل صفوة الجنس البشري. ألم ينعت الله نفسه أيوب بكونه "كاملاً ومستقيماً، يتقي الله ويحيد عن الشر"؟ فلماذا إذاً يعاني أيوب الألم؟ ليس على سبيل العقاب. حاشا له ذلك... فقد اصطفى ليكون الممثل الرئيسي في صراع السماوات العظيم.

 

تبدأ المحنة بادعاء الشيطان أن أيوب أثيرٌ أفسده التدليل، وهو موالٍ لله فقط لأنه تعالى "سيج حوله وحول بيته وحول كل ما له من كل ناحية". فالشيطان يسخر زاعماً أن الله، وهو غير جدير بالمحبة في ذاته، إنما يجتذب أُناساً مثل أيوب لأنه "يرشوهم" كي يتبعوه. فإذا قست أحوال الزمان – على ما يتهم الشيطان – ينبذ أُناس كهؤلاء الله في الحال. وإذ يقبل الله التحدي لامتحان نظرية الشيطان، موافقاً بذلك على أن يدع استجابة أيوب تحسم القضية، تبدأ المصائب تنهال على أيوب المسكين غير المرتاب.

 

لن أنكر غرابة هذا النزاع السماوي. وفي المقابل، لا يمكنني أن أتفادى خبر الرهان في سفر أيوب، لأنه يؤتينا نظرةً خاطفة عبر كوة الأبدية. فعندما يُعاني الناس الألم تنبجس (تنطلق) الأسئلة: الأسئلة التي عذبت أيوب بعينها – لماذا أنا؟ ماذا يجري؟ هل الله معني (مهتم)؟ أهنالك إله؟ وهذه المرة، في سرد معاناة أيوب كما هي، نحن المشاهدين – لا أيوب – نؤتى لمحةً لما وراء الستارة. فما نتوق إليه، تزودنا به مقدمة سفر أيوب: نظرة خاطفة على كيفية إدارة شؤون العالم. وكما لا يحصل في أي موضع آخر من الكتاب المقدس، يبين لنا سفر أيوب وجهة نظر الله، بما في ذلك النشاط الفائق للطبيعيِّ والمخفي عنا عادةً.

 

لقد استدعى أيوب الله للمحاكمة، متهماً إياه بأفعالٍ جائرة ضد طرف برئ. وإذ استبد به الغضب وثارت سخريته وشعر بأنه مغبون ومخذول، هام على وجهه حتى قارب الكفر قدر المستطاع، دون أن يتردى في هوته. ولكلماته وقع مألوف على نحوٍ مذهل، لأنها حديثة ومعاصرة إلى حد بعيد. فهو يجهر بشكاوينا التي نشعر بها في أعمق أعماقنا ضد الله. ولكن الإصحاحين 1 و2 يبرهنان أن الله، بصرف النظر عما يظنه أيوب، ليس خاضعاً للمحاكمة في هذا السفر، بل الخاضع لها هو أيوب. فبيت القصيد في السفر ليس الألم: أين يكون الله عندما نعاني الآلام؟ إذ إن المقدمة التمهيدية تناولت هذه المسألة. إنما بيت القصيد هو الإيمان: أين هو أيوب عند معاناة الآلام؟ وكيف هي استجابته؟ ففي سبيل فهم سفر أيوب، يجب أن أنطلق من هنا.

 

 

 

الانعكاس العظيم

 

في المفهوم المسيحي، يجري التاريخ البشري كله بين أول قسم من سفر التكوين وآخر قسم من سفر الرؤيا، حيث يرسم كلاهما المشهد عينه بضربات الفرشاة عينها: فردوس ونهر، ومجد الله النير البهي، وشجرة الحياة. فالتاريخ يبدأ وينتهي في المكان ذاته، وكل ما يتخلله يُشكل الصراع لاسترداد ما قد فُقد.[1]

 

وبعد السقوط من الفردوس، دخل التاريخ طوراً جديداً. فإن الله بنفسه كان قد أتم الخلق. مبتدئاً من لاشيء ومنتهياً إلى الكون بكل عظمته. أما العمل الجديد فهو الخلق من جديد، وفي سبيل هذا العمل يستخدم الله الكائنات البشرية أنفسها التي سبق أن أفسدت عمله أصلاً. وقد تقدم الخلق عبر مراحل: الكواكب أولاً، ثم السماء والبحر، فإلى النباتات والحيوانات، وصولاً إلى الرجل والمرأة في النهاية. أما الخلق من جديد فيعكس الآية، إذ يبدأ بالرجل والمرأة ويبلغ دورته في استرداد كل ما تبقى.

 

ومن عدة وجوه، عمل إعادة الخلق "أصعب" من الخلق، لأنه يعتمد على كائنات بشرية ناقصة. إنه لجلي أنه كلف الله الكثير: موت ابنه. ومع ذلك، فإن الله يُصر على شفاء العالم من الأسفل فصاعداً، لا من الأعلى فنازلاً.

 

وإذ درست سفر أيوب، صعقني أن الرهان كان، في صميمه، إعادة تمثيل شديدة الوضوح لسؤال الله الأصلي عند الخلق: أيختار البشر ما هو معي أو ما هو علي؟ فمن وجهة نظر الله، ما برح ذاك هو السؤال المركزي في التاريخ، بدءاً بآدم واستمراراً حتى أيوب وكل رجل وامرأةٍ عاشا على الإطلاق. والرهان في سفر أيوب يُعرِّض للامتحان كامل الاختبار البشري.

 

لقد أنكر الشيطان أن الكائنات البشرية حرة حقاً. وبالطبع، نحن نملك حرية بأن نهوي ونهبط: فآدم وجميع نسله برهنوا على ذلك. أما الحرية بأن نعلو ونصعد، بأن نصدق الله لا لسبب إلا.. حسناً، لا لسبب على الإطلاق، فماذا نقول فيها؟ أيستطيع امرؤ أن يؤمن حتى حين يظهر له الله كعدو؟ أم الإيمان حصيلة إضافية أُخرى للبيئة والظروف؟

 

إن الإصحاحين الأولين في سفر أيوب يفضحان كون الشيطان السلوكيَّ (نسبة إلى رواد المدرسة السلوكية) العظيم الأول، إذ لمح إلى أن أيوب كان مُكيَّفاً (تم برمجة سلوكه مسبقاً) كي يحب الله. احجب عنه المكافآت، ترَ إيمانه ينهار! وهكذا عرَّض الرهان نظرية الشيطان للامتحان.

 

إنني بت أرى تجارب أيوب امتحاناً حاسماً للحرية البشرية، وهذه مسألة مهمة في الزمن الحديث أيضاً. ففي قرننا الحالي، لابد لنا من الإيمان حتى نُصدق أن الكائن البشري يساوي أكثر من مجرد مزيج من برمجة الحمض النووي، وغرائز المستودع الجيني والتكييف التربوي وقوى التاريخ اللاشخصية. ولكن حتى في هذا القرن القائل بالسلوكية، نريد أن نؤمن إيماناً مُغايراً. فنحن نريد أن نؤمن بأن الخيارات الألف – الصعبة والسهلة – التي نقوم بها كل يوم مهمة ومؤثرة بطريقة ما. وسفر أيوب يؤكد أنها كذلك فعلاً. فإيمان شخص واحد يمكن أن يُحدث فرقاً. فللكائنات البشرية، رغم كل شيء، دورٍ ما. وإذ أتم أيوب ذلك الدور، غدا قدوةً لأي امرئٍ يواجه الشك أو العناء يوماً.

 

ويغلب جداً أن تبدأ خيبة أمل الإنسان بالله في ظروف تُشبه ظروف أيوب. فإن موت ولد، أو حادثاً مأساوياً، أو فقدان وظيفة، قد يستدعي الأسئلة التي طرحها أيوب بعينها: لماذا أنا؟ أي شيء لله علي؟ لماذا يبدو نائياً (بعيداً) هكذا؟ ونحن قراء قصة أيوب يمكننا أن نرى من وراء الستارة صراعاً ناشباً في العالم غير المنظور. غير أننا في بلايانا الخاصة لا نؤتى بصيرة كهذه. فحين تضرب المأساة ضربتها، نعيش في الظلال، ولا نعي ما يدور في العالم غير المنظور. وعندئذ تتكرر المأساة التي عاش أيوب مراحلها، في حياتنا الفردية. ومرة أخرى، يرهن الله سمعته باستجابة الكائنات البشرية التي لا يُستطاع التنبؤ بتصرفاتها.

 

بالنسبة إلى أيوب، تضمنت ساحة قتال الإيمان خسارة الممتلكات، وفقدان أفراد العائلة، وفقدان الصحة. وقد نواجه نحن صراعاً من نوعٍ آخر: فشل مهني، زواج متضعضع (متضرر)، تكييف جنسي، شكل جسمي مُنفر غير جذاب. ففي أوقاتٍ كهذه تبدو الظروف الخارجية أنها الصراع الحقيقي، من مرض وعجز مالي وأحوال معاكسة. وربما ترجينا من الله أن يُغير تلك الظروف. لو كنت جميلة أو جذابة، لسار كل شيء على ما يُرام. لو كان لدي مال أكثر – أو على الأقل وظيفة – لآمنت بالله بسهولة.

 

غير أن المعركة الأكثر أهمية، كما تبين لنا سيرة أيوب، تجري في داخلنا. هل نثق بالله؟ يعلمنا أيوب أنه لحظة يكون الإيمان أصعب الأمور وأقلها احتمالاً، في هذه اللحظة عينها تكون الحاجة إلى الإيمان أمس جداً فجهاد هذا الرجل يؤتينا لمحةً على ما يجهر به الكتاب المقدس في غير موضع بصراحةٍ ووضوح، ألا وهو الحقيقة الرائعة بأن خياراتنا ليست فقط مهمة بالنسبة إلينا، وإلى مصيرنا الشخصي، بل أيضاً – ويا للعجب – بالنسبة إلى الله وإلى الكون الذي يُديره ويدبره.

 

لا يقدم سفر أيوب أجوبةً شافية عن السؤال "لماذا...؟" إلا أنه بدلاً من ذلك يستبدل به سؤالاً آخر: "لأية غاية أو هدف؟" فإن أيوب المحنك المتهكم الغريب الأفكار، ببقائه أميناً نحو الله في خضم بلاياه، أسهم في إبطال ألم هذا العالم وظلمه الذين سبق أن اعترض عليهما بمنتهى الحدة والشدة.

 

ولكن لماذا التأخير؟ لماذا يدع الله الشر والألم يتواجدان بمنتهى الفظاعة، بل يزدهران على هذا الكوكب؟ لماذا يدعنا نقوم ببطءٍ وتعثر بما يمكنه أن يقوم به بطرفة عين؟

 

إنه يتمهل لأجل خيرنا. فالخلق من جديد يشتمل علينا، إذ إننا بالحقيقة في مركز خطته. وغرض الرهان، الدافع وراء كامل التاريخ البشري، هو أن يُنمينا نحن، لا الله. حتى إن وجودنا بالذات يُعلن للقوى المنتشرة في الكون أن الإصلاح والاسترداد جاريان. فكل فعل إيمان من قبل كل واحدٍ من شعب الله أشبه بقرعة ناقوس، وإيمان كإيمان أيوب تتردد أصداؤه في جميع أنحاء الكون.

 

 

- يتبع يوم 15 من هذا الشهر

 

 

 

 

فيليب يانسي

 

من كتاب "عندما لا تمطر السماء

 


[1] يتطرق جان مكوراي إلى مصيرنا النهائي في مقطع من "اتضاع الله " يقول فيه: "إذا شئنا لعقيدة الخطية الأصلية ألا تكون لها الكلمة الأخيرة، ينبغي أن نواجهها بعقيدة البر الأصلي. وبعدُ، فإن البر في رواية العهد القديم أكثر أصالة من الخطية".