الكنيسة

جون ر. ستوت ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

النور والملح

 

 

إذا كان البيت مظلماً في الليل، فلا مكان للشكوى من ظلام البيت. فهذا قد حدث لأن الشمس قد غابت. فالسؤال الذي ينبغي أن نسأله: أين النور؟

وعندما يفسد الطعام ولا يعد صالحاً للأكل، فلا معنى للشكوى من الطعام لأجل فساده. فقد حدث ذلك لأن البكتريا تُركت حرة لكي تتكاثر. فالسؤال هو : أين الملح؟

بكيفية مشابهة عندما يصبح المجتمع فاسداً (مثل ليلة مظلمة أو سمك متعفن) فلا معنى لأن نلوم المجتمع على فساده. هذا ما يحدث عندما يكون الإنسان الشرير بدون رادع أو قيد. والسؤال الذي ينبغي أن نسأله: أين الكنيسة؟ أين الملح والنور؟

وسيكون ذلك رياء عندما نرفع حواجب عيوننا ونهز أكتافنا على اعتبار أن تلك لن تكن مسؤوليتنا. لقد أخبرنا يسوع ان نكون ملحاً ونوراً في المجتمع. ولذلك عندما تكون هناك ظلمة وفساد كثير فإن ذلك يعبر وبكل المقاييس عن خطئنا، وعلينا أن لا نلوم إلا أنفسنا.

*****

 

إن العديد من الإنجيليين يشعرون اليوم بعدم الارتياح تجاه كنيسة إنجلترا، ويرون أن الكنيسة التي وصفتها هي أكثر مثالية من الواقع. والبعض يرفضها على اعتبار أنها كنيسة "ورقية" وليست من لحم ودم وعظام وأعصاب. في نفس الوقت واعتباراً من النصف الثاني من القرن العشرين يلاحظ أن الحركة الإنجيلية قد نمت وكبرت في الحجم والمكانة والنضج والمعرفة والتماسك. وهي تحتوي على فروع مختلفة (على سبيل المثال "المصلح" و"الكاريزماتك" وهو أشبه بالائتلاف الحزبي. وفي نفس الوقت هناك هجوم على الأخلاق والعقائد المسيحية التقليدية. وكنتيجة لكل هذا يعاني شعب الكنيسة من توتر شديد. فماذا يجب أن نفعل؟

ثلاثة اختيارات

الاختيار الأول هو الانفصال أو الانسحاب من الكنيسة. يقول البعض "إن البقاء في كنيسة مشوشة عقائدياً يعتبر مساومة غير محتملة هذا يعطي انطباعاً أننا نتغاضى عن هرطقة، ولذلك ولكي نحافظ على شهاداتنا الإنجيلية بدون مساومة علينا أن ننسحب.

هذا هو موقف الإنجيليين المستقلين. إن اهتمامهم الأساسي ينصب على المحافظة على نقاء عقيدة الكنيسة، وهو حقيقة اهتمام مطلوب وفي محله. وعلينا أن نشاركهم حماسهم وغيرتهم على الحق. لكن تركيزهم على نقاء الكنيسة كان على حسب وحدتها، والتي تبدو أنها ليست موضوع اهتمامهم.

مما لا شك فيه هناك بعض المواقف المتطرفة (على سبيل المثال إذا كانت الكنيسة ورسمياً تنكر التجسد) فلا مجال إلا الانفصال، وعندها سيكون الذين انفصلوا هم الكنيسة. إننا نحتاج أن نتذكر المصلحين في القرن السادس عشر كانوا مترددين جداً في أمر انفصالهم، لم يكونوا راغبين في ترك الكنيسة الكاثوليكية، وفي المقابل كانوا يحلمون بإصلاح كاثوليكي، أي كنيسة كاثوليكية مصلحة طبقاً للكتاب المقدس، وكان اهتمامهم يشمل نقاء الكنيسة ووحدتها أيضاً .فعلى سبيل المثال كتب كالفن إلى كرانمر سنة 1552 عن انفصال الكنائس وأنه كان "من أكبر المحن التي اجتازتها بلادنا، وأن (النزيف) الذي أصاب جسد المسيح أثر عليه كثيراً". وأضاف كالفن أنه لن يتردد أن يعبر عشرة بحار إذا أمكن لكي يساعد، وإذا كانت مسؤوليتي تعليم أولئك الذين يبحثون عن عقيدة واضحة وثابتة فييجب علي أن أفعل ذلك بدون مشاكل أو مخاطر". هذا هو (أو ينبغي أن يكون) موقف الأنجليكان الإنجيليين اليوم.

الاختيار الثاني الذي أمامنا هو التطرف المضاد وهو المساومة بل وحتى الامتثال والمطابقة. فقرار البعض ليس فقط أن يظل في كنيسة إنجلترا مهما كان الثمن. بل أيضاً لديهم الاستعداد ليتخلوا عن شهاداتهم الإنجيلية المتميزة.

إنني أحترم رغبتهم ليكونوا أعضاء مسؤولين في كنيسة إنجلترا ويقللوا الاختلافات بين تقاليد الكنيسة (متى فعلوا ذلك بنزاهة). لكني أعتد أن موقفهم متسم بقصر النظر. إذ يجب أن يكون لدينا الحماس مع الاتضاع لنشهد الحق الإنجيلي كما فهمناه. نحن لا ندعي العصمة وربما لدينا أخطاء في أمور محددة. إننا على استعداد لتغيير أفكارنا وفقاً للكتب المقدسة. ولكن لا يمكننا إخفاء او إخماد اقتناعاتنا. إن اهتمامنا كإنجيليين ليس بالتأكيد الولاء إلى "حزب" بالمفهوم السياسي للحزب. وهذا المفهوم يعني السير في اتجاه الحزب والخضوع لسلطانه، وقبول تأديبه. إن الولاء الإنجيلي ليس هكذا (ليس لحزب)، بل هو الولاء للحق المعلن وبكيفية خاصة وللمجد الفريد ولكفاية يسوع المسيح.

إن جوهر الإيمان الإنجيلي هو أنه في تجسد يسوع المسيح وصلبه وقيامته وصعوده، قد تكلم الله وفعل بقوة لأجل خلاص العالم. ونتيجة لذلك كان يسوع هو كلمة الله الأخيرة إلى العالم. ولا يمكن تصور إعلاناً أعلى من ذاك الذي قدمه في ابنه. يسوع المسيح أيضاً هو حمل الله الأخير لأجل خلاص العالم، ولا يُصدق أن هناك شيئاً آخر نحتاج أن نضيفه إليه. لا يوجد شئ نضيفه لما قاله الله في المسيح أو إلى ما عمله الله في المسيح. كلاهما كان hapax  (مرة واحدة). إن إعلان الله وفدائه في المسيح قد أُكمل وانتهى.

ولهذا فالسمة الخاصة الإنجيلية هي الإصرار على "الكتاب الواحد" و"النعمة الواحدة" وكلاهما نشأ من المسيح الواحد. المسيح وحده للإعلان والفداء. فاهتمامنا إذن هو المحافظة على هويتنا المتميزة بدون تحزب أو تعصب أو تعنت. بل تتسم بالأمانة لمجد شخص ربنا يسوع المسيح ولعمله. وبهذا نحافظ على شهادتنا الإنجيلية المتميزة.

الاختيار الثالث هو الشمولية بدون مساومة، بمعنى أن تبقى دون أن تستسلم. وبصراحة هذا هو أكثر الاختيارات الثلاثة ألماً. الاختيار الأول والثاني أسهل لأنهما طريقان لقطع العقدة المستعصية. الأول هو الانفصال عن أي شخص لا تتفق معه، وتستمتع بالشركة مع المسيحيين الذين يوافقونك الرأي. والثاني هو ضعف المحافظة على الشهادة المتميزة وبالتالي اعتبار كل وجهات النظر متساوية. إنهما اختياران متعارضان (الانفصال والمساومة) لكنهما يتفقان معاً في تقليل التوتر والهروب من الصراع. من السهل أن تخرج خارجاً أو تستسلم. أما الطريق الأصعب والذي يبدو وكأنك تسير على حبل، فهو أن تظل في الداخل دون أن تستسلم. وهذا يعني أن تستمر في منطقة التوتر، وعدم التراجع إلى المساومة أو الانسحاب.

ولكن هناك نوعان من الشمولية

وأود أن أوضح هذا. فما يسمى غالباً "الشمولية" لكنيسة إنجلترا يمكن أن نراه بطريقتين، الأولى ذلك النوع من الشمولية غير المحدودة وغير الملزمة وهي التي لا تستثني أحداً. والثانية هي نوع من الشمولية والتي لها حدودها ومبادئها وخطوطها الواضحة.

النوع غير المحدود وغير الملزم يعني أن عقائد الكل متاحة. وليس هناك رأي مرفوض، ولا يحكم على أحد بالهرطقة، بل أكثر من هذا كل وجهة نظر مرحب بها كإسهام بل كعنصر من لحن مختلط. لقد أطلق الأسقف ج. س. رايل على هذا النوع من الشمولية اسم "نموذج فلك نوح" حيث يوجد مكان مناسب لإقامة كل من الطاهر والنجس.

كان أفضل نقد لوجهة النظر هذه في مقالة رائعة لرونالد نوكس Ronald Knox بعنوان "اجتماع مشترك من كل جهة" وقد حمل مقاله بعض التهكم: "نداء لكنيسة إنجلترا لكي تشمل كل اليهود والبوذيين والبراهمة والملحدين وآخرين" في كنيسة عامة وجديدة. وكتب أيضاً "ليس متوقعاً من كل فرد أن يتلو قانون الإيمان بكامله. لكن عليه أن يختار فقط بعض العبارات التي تروق له. ولهذا من المتوقع ومع الحظ السعيد أن تتكون كنيسة كبيرة تسير بهذا النظام ليأتي يوم يقولون كلهم الصيغة الكاملة لقانون الإيمان".

بعد أن تتعامل مع الاختلافات بين المسيحيين، والاختلافات بين الموحدين، نأتي أخيراً إلى مشكلات الاجتماع مع الملحدين "ففي حالتهم هناك خلاف واحد علينا أن نصلحه وهو ما إذا كان الله موجوداً أم لا". ولهذا اقترح على اللاهوتيين وكما نؤمن نحن بالله وأنه موجود ومتعال، يجب علينا أن نوافق على "القوانين المتناقضة مؤخراً والتي تشير إلى أن الله موجود وغير موجود". ثم ختم تهكمه بقوله: في هذه الأيام نحن نشكر الله على الاستنارة والاستقلال. فلكل واحد الحق في آرائه وفوق كل شئ للرأي القائل بأنه لا يوجد شخص آخر له الحق في رفض آراء الآخرين.

في الحقيقة ليست هذه وحدة حقيقة بل فقط محاولة توافقية. لقد حذر ربنا يسوع وأيضاً رسل الكنيسة من المعلمين الكذبة وأنني سعيد أن كنيسة إنجلترا تدرك باستمرار أن الوحدة يجب أن تكون في الحق والشمولية لابد أن تكون ملزمة. وهذا هو الفهم القديم لما تعنيه الشمولية في الكنيسة الأنجليكانية. إن الغرض من توبة "إليزابيث" في القرن السادس عشر كان وحدة الأمة داخل كنيسة عامة تخضع لسلطة الكتاب المقدس وإقرار الإيمان كما كتبه د.أليك فيدار:

"لقد فُهم مبدأ الشمولية عند الأنجليكان على أن مجد كنيسة إنجلترا، أي لتتكاتف معاً في تجاوز الاختلافات الكثيرة في الإيمان المسيحي وإظهار رغبتنا أننا موافقون على أن نختلف. وهكذا تعتبر الكنيسة نوعاً من التحالف الديني...إن مبدأ الشمولية يعني أن الكنيسة ينبغي أن نتمسك بأساسيات الإيمان، وفي نفس الوقت تسمح بالآراء والتفسيرات المختلفة في الأمور الثانوية ولاسيما في الشعائر والطقوس".

هذا التمييز يعود إلى الرسول بولس من حيث إصراره على الولاء للإيمان الرسولي إلى جانب حرية الضمير في الأمور الثانوية.

في الختام هل يمكننا أن نتخيل موقفاً فيه يشعر المؤمنون المحافظون بأنهم لابد أن يتركوا الكنيسة؟ وهي هي بعض الموقف المشابهة:

عندما تكون هناك قضية أساسية على المحك وتستحق حكم الإدانة "ضد المسيح" (1يو2: 22) أو "أناثيما" (غل 2: 8، 9).

عندما تكون هناك مسألة متخالف عليها ليس من قبل أقلية غير مسؤولة بل من قبل أغلبية.

عندما تُسكت الأغلبية صوت الأقلية الأمينة مانعين إياهم من الشهادة أو الاعتراض فيما بعد.

عندما نكون قد استخدمنا – وبضمير حي – كل البدائل الممكنة.

عندما نكون قد صرفنا وقتاً كافياً في المناقشة والصلاة ولا يستطيع الضمير أن يتحمل أكثر.

 

لدي حلم

مع الاعتذار لمارتن لوثر كنج وحلمه ولخطابه الشهير في واشنطن العاصمة، فقد أنهيت عظتي بحلمي:

لدي حلم بكنيسة كتابية يكون ولاؤها لكل الإعلان الإلهي في الكتاب المقدس بأمانه وكفاءة ليحضروا كل إنسان كاملاً في المسيح.

شعبها يحب كلمة الله ويزينها بالطاعة وبالحياة المشابهة للمسيح. حياتها تظهر قوة وجمال الاتزان الكتابي.

لدي حلم بكنيسة كتابية.

لدي حلم بكنيسة متعبدة.

شعبها يأتي معاً ليتقابل مع الله وله.

كنيسة تدرك أن الله موجود في وسطهم باستمرار وباتضاع كامل يسجدون له.

ويجتمعون بانتظام حول مائدة الرب يسوع للاحتفال بعظمة عمله الفدائي على الصليب.

شعب يثري العبادة بمواهبه الموسيقية.

ويؤمن بالصلاة ويثق في الله.

والذي يقدم عبادته ليس قط يوم الأحد واجتماعات الصلاة. لكن أيضاً في البيوت وفي بقية الأسبوع وفي الأمور الحياتية اليومية.

لدي حلم بكنيسة متعبدة.

لدي حلم بكنيسة مهتمة.

كنيسة تجمع من كل الأجناس والأمم والأعمار والخلفيات الاجتماعية المختلفة وتظهر الوحدة والتنوع في عائلة الله.

شركتها حارة ومرحبة لا يفسدها غضب أو أنانية أو غيرة أو كبرياء.

أعضاء يحبون بعضهم بعضاً من قلب طاهر، يحملون بعضهم أثقال بعض، يغفرون لبعضهم البعض.

ويصادقون المنعزلين ويعضدون الضعفاء ويقبلون المرفوضين والمحتقرين من المجتمع.

ومحبتهم تفيض على العالم المحيط لتجذبهم إلى محبة الله.

لدي حلم بكنيسة راعية.

لدي حلم بكنيسة خادمة.

والتي رأت المسيح الخادم وسمعت دعوته لتكون خادمة أيضاً.

وتحررت من الاهتمامات الخاصة، وتحولت من الداخل إلى الخارج.

وتقدم نفسها بتضحية لخدمة الآخرين.

أعضاؤها يطيعون وصية المسيح بأن يعيشوا في العالم، يتغلغلوا في المجتمع ليكونوا ملحاً للأرض ونوراً للعالم.

شعبها يشارك أصدقاءه بالأخبار السارة بيسوع بكيفية طبيعة وببساطة وحماس.

ويخدم باجتهاد منطقتهم السكنية، العائلات والأفراد، المواطنون والغرباء، كبار السن والأطفال.

وواعية بالاحتياجات المختلفة للمجتمع، ولديها الحساسية والمرونة الكافية لتتمكن ببرامجها من تقديم خدمة أكثر فاعلية.

ولديها رؤية شاملة فتدفع شبابها ليقدموا حياتهم في الخدمة، وباستمرار ترسل شبعها خارجاً للخدمة.

لدي حلم بكنيسة خادمة.

لدي حلم بكنيسة منتظرة.

لا يضع أعضاؤها كل اهتماماتهم في الغنى المادي أو الرفاهية لأنهم يدركون أنهم غرباء ونزلاء في الأرض.

تكون أكثر أمانة وأكثر فاعلية لأنها تنتظر أن ترى ربها عند مجيئه. تكون شعلة رجائها متقدة، تضئ في العالم البائس المظلم.

في يوم المسيح لا تخجل بل تطفر بفرح لتستقبله.

لدي حلم بكنيسة منتظرة.

هذا هو حلمي بكنيسة حية، وقد نشترك كلنا في هذا الحلم وتحت سيادة الرب قد يصبح هذا الحلم حقيقة.

 

جون ر. ستوت
كتاب "الكنيسة: الهروب إلى الله أم من الله؟"