أنا أنشغل، إذاً أنا موجود

مشير سمير ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

من الواضح أن ذلك قد أصبح شعار الإنسانية منذ بداية القرن العشرين وقبل ذلك قليلاً. دعونا نلقي نظرة تحليلية، ولكن سريعة، على هذا الشعار، فالتحليل في حد ذاته أمر يتعارض مع شعار "المشغولية" هذا،

ذلك لأن التحليل يتطلب التفرغ والهدوء. ولذا فمجرد بدء هذا المقال أصعب بكثير من الخوض فيه، ومجرد الالتفات لعنوان هذا المقال أسهل بكثير من الانتهاء من قراءته. ولكن، كيف نطرح "المشغولية" عنا لكي نأخذ في التحليل ما لم نفند أولاً "المشغولية" كشعار للحياة المعاصرة؟ وكيف نشرع في هذا التفنيد إن كانت "المشغولية" تعيقنا عن التفكير التحليلي وتنفيه؟! وهكذا نجد أنفسنا في حلقة مفرغة لمجرد محاولة البدء في التفكير.

 

من الواضح في مجتمعنا الحديث أن انشغال الإنسان صار دليل على أهميته، هذا الفكر المغلوط الذي رسخته في الإنسانية كل من الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر والتطور التكنولوجي في القرن العشرين، نظراً لسيطرة النزعة المادية والتضاؤل الشديد لأهمية الفرد في عالم الشركات والمؤسسات العملاقة. حتى صار الوضع الوحيد ربما الذي فيه يشعر الفرد بوجوده وأهميته هو انشغاله وذوبانه في المنظومة الأكبر. هذا الوضع الخطير يخبرنا بأمرين: الأمر الأول هو للأسف ضياع الإنسان في المجتمع الحديث وفقدانه لقيمته، سواء الإنسان بصفة عامة أو الفرد بصفة خاصة الذي ربما قد عانى في تنشئته المبكرة مع والدين هما جزء من هذه المنظومة التعيسة. وأما الأمر الثاني هو القلق الوجودي الذي يعانيه هذا الفرد بسبب إحساسه بالضياع هذا. من الناحية السيكولوجية، قد لا يشعر كثير من البشر بهذا الإحساس بالضياع بطريقة شعورية بل يظل هذا الإحساس قائماً في اللاشعور دون أن يتعرف عليه الشخص أو يدركه، ولكن تظل سمات هذا الإحساس واضحة على السطح الخارجي في حياة الإنسان لمن يريد أن يقرأ ويفهم. وأهم وأخطر هذه السمات هي المشغولية الزائدة التي يملأ الناس بها جوانب حياتهم العملية. يقول لنا رولو ماي في كتابه الرائع "بحث الإنسان عن نفسه": "الكثير من الناس يتعمدون أن يظلوا مشغولين طوال الوقت كوسيلة لتغطية قلقهم، وما نشاطهم إلا طريقة للهرب من أنفسهم. إنهم يمتلكون حساً زائفاً ومؤقتاً بالحيوية لأنهم على عجلة وكأن شيئاً ما سينهار لو توقفوا عن الحركة، أو أن الانشغال علامة على الأهمية."

 

من الطريف أني توقفت، أنا نفسي لفترة، عن استئناف كتابة هذا المقال (ربما كنت مشغولاً!!)، ولذا قررت ألا أتركه كثيراً معلقاً ريثما استجمع أفكاري لكتابة مقال أكاديمي متخصص أفند فيه مبدأ "الانشغال"، إنما قررت أن أدخل مباشرة إلى قلب المغزى من هذا المقال فربما أسعفتني المباشَرة على إنهاء هذا المقال وأسعفت القارئ على الانتهاء من قراءته. ماذا أريد أن أقول الآن، إذن؟ أهم ما أريد أن أقول هو أن هذا الشعار الإنساني الشيطاني؛ شعار "المشغولية" (ونعم أصفه بأنه إنساني شيطاني، فهو نتاج مشترك بالرغم من أن المسئول عنه بالأساس هو الإنسان)، هذا الشعار الإنساني الشيطاني إنما ينطبق انطباقا تاماً الآن على ما يُسمى بـ"الحياة/الخدمة المسيحية"، وأرجو ملاحظة أني قصدت استخدام تعبير "ما يُسمى"، أي أني لا أقر بأن ذلك من المسيحية (الحقيقية).

كيف ينطبق هذا الشعار الإنساني الشيطاني على ما يُسمى بـ "الحياة/الخدمة المسيحية"؟ بكل مباشرة ممكنة أقول أن الإنسان المعاصر، الفرد المُسمى "مسيحي" لم يختلف عن زميله خارج هذا المسمى، في أنه هو أيضاً لم ينجو من الضياع وفقدان القيمة في حياته، الفارق الوحيد هو أنه قد ضاع في المؤسسات والهيئات المسماة "مسيحية" فذاب فيها لكي يشعر بوجوده وأهميته ويعوض إحساسه بالضآلة والنقص! لذا أجدني لا أستطيع أن أسمي هذا مسيحية كما أعرفها من الكتاب المقدس. فنجده اعتنق هو أيضا ًمبدأ "أنا أنشغل، إذاً أنا موجود" ولكنه يقول: "أنا أنشغل بعمل الله وبالملكوت God’s business، أنا لا أجد الوقت من كثرة العمل، أنا مشغول، فيبتسم لنفسه داخلياً قائلاً لها " أنا إذن مهم.. أنا موجود.. أنا أشعر بالقيمة والرضا." ولكن ما يجعلنا ندرك أنه تحت طبقة واحدة من هذا الشعور هو يشعر بعكس ذلك تماماً إنما إجابته على الأسئلة التالية: "هل أجد وقتاً للقراءة؟ هل أجد وقتاً للانفراد بنفسي؟ هل أجد وقتاً للتأمل؟ هل أجد وقتاً لمجالسة فرداً آخر في هدوء؟ هل أجد وقتاً للهدوء والسكون الذي بدونه لا أجد الخلاص (أش30: 15)؟!" فعندما تأتينا الإجابة بـ"لا" فإننا لا نستطيع إلا أن نصل لاستنتاج واحد؛ وهو أن هذا الإنسان الفرد يهرب من نفسه لأنه يهرب من الهدوء الذي فيه يجد نفسه. ولماذا يهرب من نفسه؟ لأنها ضئيلة وضائعة، ولذا يلجأ، ربما لاشعورياً، لمبدأ وعقيدة "الانشغال" والتي فيها يجد، تعويضياً، الإحساس بالوجود وبالأهمية، وأقول "تعويضياً" حيث أنه إحساس تعويضي، وليس حقيقي أو أصلي، بالقيمة وبالوجود.

ولكن لماذا ضاع هذا الإنسان المعاصر الفرد

 

والسؤال الأخير الآن الذي يقودني إلى أقصى مدى مباشر أريد أختم به مقالي هذا قبل أن يفارقني القارئ، إن كان لازال بالفعل معي؛ هو لماذا انطبق هذا الشعار وهذا المبدأ والمعتقد على الإنسان المدعو مسيحياً؟ أو ربما سئلنا لماذا صار هذا الفرد مسيحياً مُدعياً (غير حقيقي)؟ الإجابة باختصارٍ مباشر أيضاً هي أن ما يُسمى بالحياة/الخدمة "المسيحية" في المؤسسات والهيئات المسماة "مسيحية" إنما تتأثر وتخضع وتتشكل بأنماط الحياة المجتمعية شأنها شأن أي من أشكال الحياة أو الخدمات المؤسسية بالمجتمع، ولا مراء في ذلك فهي جزء من هذا المجتمع ونسيجه، ولذا فهي غير مسيحية (غير حقيقية)، حيث المسيحية هي في المجتمع ولكنها ليست من ذلك المجتمع (يو17: 14-16/ رو12: 2/ في3: 20)، ولذا لا أستطيع أن أدعوها مسيحية (حقيقية)، ولذا ضاع فيها الإنسان الفرد كما ضاع في الحياة، ولم يجد مُنقذ.

 

مشير سمير