يا ربّ، من أنا؟ (الصمت والإصغاء لله)

بنيغنُس أورورك الأغسطيني ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٢

في الصمت، لربّما أرى افكاري للمرّة الوحيدة في حياتي عوض أن أكون عبدًا لها. أنا أقف على مسافةٍ معيّنة من أفكاري وأرى كيف تضايقني.

إنّ رحلتنا الداخليّة، تمامًا مثل رحلة أوغسطينس، تبدأ من عقولنا وأنانيّتها وتثبيت ذاتها لتصل إلى المركز، إلى قلوبنا.

إنّها رحلة نحو الاكتشاف الذاتيّ والدخول في الله.

وعند انغماسنا في حياتنا اليوميّة، نادرًا ما يدرك معظمنا ما يفكّرون فيه. ولكن، عندما نجلس في حضرة الله، نكتشف أنّنا قد عشنا معظم حياتنا هاربين من أنفسنا. عندما أُبقي نفسي منشغلاً بالنشاطات، والأعمال، واللهو، يعني أنّني أعيش خارج نفسي. وقد أشار أوغسطينس إلى أنّنا قد نصبح غرباء عن أنفسنا؛ فلا نعودُ نعرف أنفسنا.

ويبقى البحث الأهمّ في حياة كلّ فرد منّا، كما يقول أوغسطينس، معرفة الله ومعرفة أنفسنا. وقد قال أيضًا إنّنا كي نعرف الله، يجدر بنا أوّلاً أن نعرف أنفسنا. كانت صرخته الوحيدة: "يا ربّ، دعني أعرف نفسي كي أعرفَكَ أنت أيضّا".

كذلك، لطالما ردّد القدّيس فرنسيس الأسّيزيّ في صلواته أثناء لياليه الطويلة التي قضاها في مغارة أفيرنا هذَين السؤاَلين: "يا ربّ، مَن أنا؟ يا ربّ، مَن أنت؟".

وفي كتاب الرجل الجديد  The New Man، كتب توماس ميرتُن Thomas Merton أنّنا إن لم نكتشف نفسنا العميقة، المحجوبة مع المسيح في الله، فلن نتمكّن يومًا من معرفة أنفسنا نحن الأفراد. "ولن نعرف الله. ذلك أنّنا لا ندخل في معرفة الله الروحية إلّا من خلال باب النفس العميقة هذه".

 

المعلّم القائم في داخلنا

يقول لنا أوغسطينس إنّ كلّ ما نحتاج إليه لرحلتنا الروحيّة هو في متناول أيدينا لأنّنا نتمتّع في داخلنا بأعظم معلّم على الإطلاق: المسيح نفسه. لقد كتب: "يقيم المسيح في قلب كلّ فردٍ منّا، وهو أفضل معلّمينا. أمّا أنا المبشّر فأصبّ وابلاً من الكلمات في آذانكم. كلماتي لا قيمة لها، إلا عندما يكتشف الله القائم فيكم معناها لكم".

"سيكون معلّمكم الحقيقيّ المعلّم القائم فيكم على الدوام. فهو مَن يمكّنكم، في أعماق ذاتكم، من فهم حقيقة ما يُقال لكم".

وفي تفسيره إنجيل يوحنّا، يقول التالي: "الله يحدّثنا من الداخل. يكلّمنا في نفسنا الداخليّة عندما نصغي إليه. إنّه يعلّمنا في الصمت من دون كلام، مفيضًا نور الفهم على روحنا. كذلك فهو يحرّك فينا التوق الشديد إلى حميميّة حضوره الرائعة فينا. فمن خلال سيرنا معه ننمو، ومن خلال التقدّم نسير، إلى أن نبلغ الهدف."

إن اكتشاف المعلّم في داخلنا والرغبة في التعلّم منه وحده خطوة أساسيّة في حياتنا الروحيّة. ذلك أنّ هذا المعلّم يدرّبنا بطريقة يجهلها أيّ معلّمٍ آخر.

لذلك، فإنّنا في أوقات صمتنا، نبقى ساكنين وحاضرين معه، في حالة تلقِّ إيجابيّة. نبقى منتبّهين باستمرار، عارفين بأنّ الله، المقيم في أعماق كياننا، يُحدِث أمورًا رائعة على الدوام.

ثم تظهرُ النظرة إلى كيفيّة تغيير حياتنا. ومن انفتاحنا تأتي إرادة الامتثال لما يحثّنا روح الله على القيام به.

 

العيش في الوقت الحاضر

إنّ إحدى ثمار الصمت الأولى هي أنّنا نلقي أنفسنا قادرين على قبول واقع الحاضر. بل أكثر من ذلك، نشعر بالسعادة لأنّنا مرتاحون فيه. وإذ نبقى صامتين في حضورة الربّ، نركّز كامل اهتمامنا على هذه اللحظة بالذات.

وإذ نستريحُ في اللحظة الحاضِرة، يهدأ عقلنا، ونتحرّر من ضغوطات حياتنا الماضية، إذ لا تعودُ تلقي بظلًها المظلم علينا. ذلك انّ الغيوم المثقلة تختفي في الهدوء، وكذلك يتقلّص عبء الماضي الذي نحمله. ونشعر بأنّنا قادرون على أن نترك المستقبل بين يدّي الله، لنعيشه لاحقًا.

حتّى ولو كنّا نواجه بعض المشاكل، ونضطرب عمقيًا عندما نستهلّ فترة الصمت، ننظر إلى مصائبنا بطريقة أخفّ قلقًا بينما ترتاح عقولنا تدريجيًا. ذلك أنّنا نراها، وندرك أنّنا قادرون على أن ننظُر من دون أن نُدين. فلا نميل بعدئذٍ إلى فهم الأشياء، ولا إلى التخطيط لأعمالنا المستقبليّة. في اللحظة الحاليّة هذه بالذات، نكونُ في حالةٍ من القبول الهادئ. وإذ تستسلم أنفسّنا السطحيّة القلقة للنوم، لا نفكّر سوى في راحتنا الهادئة والساكنة مع الله وفيه.

 

أغنية في قلوبنا

بينما نبقى هادئين في حضور الربّ، نبدأ بتذوّق صوت الصمت. كلّ شئ من حولنا صامت. نحن وحدنا مع الله، ما من أحد آخر معنا. وهو صامت أيضًا.

في الصمت الساكان والمقدّس هذا، تبدو الكلمات مجرّد ضجيج. لنحضُر أمام الله ولنأخذ نفسًا عميقًا، فتجتمع أجزاء كياننا معًا في سكونٍ موقّر.

كما لو أنّ كياننا كلّه قد استسلم للنوم، منجزًّا إلى قلوبنا المستعدّة، والمترقّبة حصول ذلك. نحن لا نتوقّع من الله أن يقول أيّ شئ، ولكنّنا نصغي؛ والله يصغي بدوره.

هذه هي اللحظة التي يلفّ فيها الصمت كلّ شئ. لربّما كلمة آتية من الصميم، ولربّما العكس. كلّ ما يهمّ في هذه اللحظة هو الانفتاح، والانتباه، والحذر؛ مجرّد أن ندرك أنّنا مع الله وأنّه معنا، من دون أن نتكبّد عناء الفهم، بل بالتسليم الهادئ للأمر. فهذه اللحظة هبة.

سأل أحدهم الأمّ تيريزيا من كالكوتا: "ماذا تقولين لله عندما تصلّين؟" فأجابت: "لا أقول أيّ شئ. أصغي إليه وحسب". ثمّ طُرِح عليها السؤال التالي: "حسنًا. ما اللذي يقوله الله لك؟"

فأجابت: "لا يقول الله أيّ شئ. إنّه يصغي إلىّ وحسب."
ثمّ أضافت: "إذا لم تتمكّنوا من فهم ذلك، لا يمكنني أن أشرحه لكم."

في الحياة اليوميّة، عندما نصغي إلى أنفسنا، غالبّا ما نسمع الضجيج المتشاحن في عقولنا. ولكنّنا في الصمت، نستطيع أن تميّز صوتًا آخر. ذلك أنّنا نميّز الموسيقى في قلوبنا عندما يسكن العقل. وهذا اكتشاف استثنائيّ جدًّا.

إذ نمكّنّا من تهدئة الصمت الذي يسمّيه أوغسطينس ضجيجَ العقل في الأذن الداخليّة، فإنّ أذن القلب قادرة على رصد الموسيقى التي تُسمع نغماتها أينما كان. وهو يقول: "لو أنّ ضجيج العالم لا يعكّرها" (الاعترافات 11: 10).

ويجرؤ القدّيس أوغسطينس على القول إنّنا إذا استطعنا أن نصمت كليًّا، جسديًّا وعقليًّا وروحيًّا، سنسمع صوت الموسيقى السماويّة. فمّن يعرف كيف يبقى ساكنًا فترةً طويلة، لاشكّ في أنّه سيسمع موسيقى الله الاحتفاليّة. وسيتردّد صداء في قلوبنا التي ستبدأ بالغناء.

أمّا الأفراد الذين لم يسمعوا في داخلهم سوى نزاع عقولهم الصاخبة، فسيتفاجأون عندما يعثرون على ترتيلة في قلوبهم. تبدو لمسة الله في حياتنا وكأنّها تعزف ترتيلة على أوتار قلوبنا وشفاهنا دائمّاً. يبدو الأمر وكأنّنا في كلّ لقاءٍ مع الله، لا بدّ للقلب من أن ينشد.

وأمّا صمتنا أمام الله فهو يحضّرنا للصمت أمام الآخرين أيضّاً. إذ ننمو في السكون، نصبح قادرين على الإصغاء إلى ما لا نهاية؛ وإلى الإصغاء بطريقةٍ جديدة: الإصغاء من دون إدانة، ومن دون تقديم النصائح، الإصغاء بطريقة تجعل الآخرين يشعرون بأنّهم مقبولون. عندما نصغي بهذه الطريقة، نسمح للآخرين بأن يتوقفوا عن الإدانة الذاتيّة. ما أن يشعر الناس بأنّهم ليسوا مدانين حتّى يتوقّفوا عن إدانة أنفسهم.

عندما يصفو وعينا ويتّضِح، نتمكّن من سماع ما يقوله الناس لنا، ولكنّنا نسمع أيضّاً داخلنا ما يقلقهم في صميم قلبهم. يجدر بنا أن نفرغ عقولنا ونريحها إذا رغبنا في أن نسمع ما يقوله لنا الناس فعليًّاً.

إن القدرة على البقاء مع الله بتنبّه صامت إلى أن يهدأ الضجيج في عقولنا تساعدنا في الحصول ربّما على أعظم المواهب التي سنقدّمها بدورنا إلى الآخرين. قد نمنحهم موهبة الانتباه المهتمّ، والكامل، وغير المتجزّئ. لا شكّ في أنّ هذا هو الحبّ غير الأنانيّ بأقصى درجاته.

 
 

بنيغنُس أورورك الأغسطيني

من كتاب: "اكتشف كنزك الخفي"